القصة الكاملة لوفاة بومدين
صفحة 1 من اصل 1
القصة الكاملة لوفاة بومدين
زكام يوغوسلافيا وحمّى دمشق .. وتأويلات الحلقة الأولى
زكام يوغوسلافيا وحمّى دمشق .. وتأويلات الحلقة الأولى
القصة الكاملة للغز وفاة الرئيس بومدين
2008.07.22
خالد عمر بن ققه
الرئيس الراحل هواري بومدين
عاد الحديث عن اغتيال بومدين إلى واجهة الأحداث من جديد بعد شهادة الوزير العراقي "حامد الجبوري"، والتي كانت عبارة عن مقارنة، لم تستند إلى ما يؤكدها توثيقا أو شهادة علانية صادقة وواضحة، فالقاتل المتهم هو الرئيس صدام، والمغتال هو الرئيس هواري بومدين وكلاهما قدم إلى ما عمل، ما يعني أن لا أحد يطالب بحق الاثنين.
- أيام الخريف.. وأسرار المرض
- شهادة "أوشريف" و"علاهم" و"قاصدي مرباح"
- "إبراهيم سعدة" وتساؤلات الصحافة المصرية
- "فايزة سعد" وحديثٌ مبكرٌ عن قتل الزعيم
كنت أتمنى ألا أعود إلى الموضوع مرة أخرى بعد كتابي "اغتيال بومدين ..الوهم والحقيقة" الصادر عن دار الغد العربي في القاهرة، ودار قصر الكتاب في البليدة-الجزائر عام 1997، وأيضاً بعد جلسة طويلة مع زوجته السيدة "أنيسة"، التي طعنت في جوانب كثيرة مما جاء في الكتاب لكنها لم تقدم بديلا لما رفضته.
العودة أيضا بالنسبة لي كانت مرفوضة لكون القضايا التي تثار في الرأي العام وتهم الدولة ينتظر أن تحول إلى قضايا كبرى يتم الحسم فيها، وبدا التناول آنذاك مجرد حديث في الصحافة لم يترتب عليه رد فعل من السلطات الجزائرية، على الأقل في حدود ما أعلم.
لكن أجدني اليوم مضطرا للحديث في هذا الموضوع باعتباري أول من أشار إليه كتابة بناء على شهادة وزير الدفاع السوري السابق العماد الأول "مصطفى طلاس" بشكلٍ مباشرٍ وعلني بيّن فيه القائم بالفعل، وكان ذلك عكس الحالات السابقة التي اكتفى أصحابها بدغدغة المشاعر على مستوى الصحافة المحلية، أوالإشارة إليه ضمن العداء لبعض الزعماء العرب، تحديداً الرئيس المصري جمال عبد الناصر، والملك السعودي المغتال "فيصل".
الخطان والتصفية . .
الواقع أن البحث في موضوع الاغتيال بالنسبة لي اعتمد على خطين متداخلين، خط المرض ومتابعة الوكالات الصحفية له، وخط المواقف السياسية، وإذا نظرنا للثمن الذي دفعته الأمة لغياب قي قاداتها الفاعلين نجد أن بومدين قد تمت تصفيته بالسم، لكن إذا استحضرنا النهايات لكل كائن حي، فإننا لا نبعد ذلك عن أسباب القدر، وهذه الرؤية، إن جاز اعتبارها كذلك، تعتمد على ما ذهب إليه الصديق العزيز "محفوظ سالمي"، حين كنا في القاهرة، إذ قال لي بالحرف الواحد بعد أن قرأ الكتاب: "لقد أشرت في كتابك عن بومدين لكل أسباب اغتياله واستبعدت قضاء الله وقدره".
لا تزال تلك العبارة محفوظة في الذاكرة كلما استعصى عليّ الأمر لفهم قضية سياسية ما، غير ان هذا لا يحول دون اعتبار بومدين كقائد سياسي وزعيم لشعب وبانٍ لدولته المستقلة، قاعدة ارتكاز للبحث في إشكالية اغتيال الدولة نفسها، فقد سبقته عدد من الاغتيالات السياسية لقادة صنعوا مجد الجزائر ولحقت به أخرى طغت عليها عمليات الإرهاب وكان أكثرها وضوحاً قتل "قاصدي مرباح" و الرئيس "محمد بوضياف".
لقد كان السؤال ولا يزال: لمَاذا لم يؤثر فينا أولئك الراحلين ولا حتى الباقين بدرجة تأثير بومدين؟
بعيداً عن الإجابة، فإنه مثل عقدة في حياتنا، لأن كل الزعامات السياسية التي جاءت بعده ستتحطم على صخرة وفائه للمبادئ وحلمه الكبير وتعامله مع شعبه.
على العموم، فإنه لا يمكن معرفة الاغتيال من عدمه إلا إذا تتبعنا خطوات المرض من خلال الوكالات، وإني لمدينٌ هنما لأرشيف جريدة "الأهرام" ولعمالها بما قدموه لي من مساعدة وما وفروه من وثائق وقصاصات الجرائد، حتى إنني خجلت في بعض الأحيان من اهتمامهم بالموضوع.
المرض.. والتفسير
في ذلك التاريخ، حيث الخريف بلغ منتصفه "نوفمبر 1978" بدأت الصحافة العالمية البحث عن أسرار غياب بومدين عن الظهور، ولم تعرف مرضه إلا في ذلك الوقت مع أنه أصيب به في شهر سبتمبر، ولم تجد إجابة حاسمة لغيابه عن المشهد السياسي فلجأت إلى احتمالات برزت فيما يلي:
- أن بومدين أصيب بالرصاص نتيجة لانقلاب فاشل.
- بعدها بيوم واحد، قالت: لقد سقط فعلاً من الحكم.
- بعد يوم آخر، ذكرت أن مصادر دبلوماسية قد أبلغتها بانقلاب وقع بالفعل ونجى منه بومدين وألقي القبض على العناصر التي قامت به.
- بعد ذلك بيومين أعلنت الوكالات أنه في الاتحاد السوفياتي للتفاوض من أجل السلاح لصالح جبهة الصمود والتحدي الرافضة لمعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل.
- تبعاً للخبر السابق أنه أثناء وجوده في موسكو، عادت للبحث في الداخل وكشفت هذه المرة عن الرائد "علي ملاح" الذي هرب من السجن قد ألقي عليه القبض في إيحاء إلى أن ما ذكرته سابقا خبرٌ مؤكد.
- بعدها بأيام، قالت الوكالات: إن السبب وراء عدم ظهور بومدين هو إصابته بمرضٍ خطير لم تحدده، وإن كانت قد وضعت جملةً من الافتراضات لم تثبت.
- بعد ثلاثة أسابيع من القول باختفاء بومدين جاءت الأخبار من باريس لتناقض ما قيل سابقا، وهي: أن حالة بومدين ليست مثيرةً للقلق ولكنها تحتاج للراحة والعلاج الطويل على يد الأطباء السوفيات.
- بعد هذا بيومين جاء خبر من واشنطن ليؤكد أن الأطباء السوفيات لم يحددوا نوع مرض بومدين.
- الخبر السابق نفسه كذب بطريقة غير مباشرة من مصادر أفريقية "لم تحدد"، حيث ذكرت الوكالات أن بومدين ليس مريضاً وإنما يزور موسكو لطلب المساعدة العسكرية.. وفي نفس اليوم نشر خبر آخر من باريس يدعي أن بومدين فقد صوته وأنه يعاني من آلام في الحلق.
- خمسة أيام بعد ذلك أعلن خبر في الصحافة المغربية بالرباط عن مرض بومدين بدرجة خطيرة.
- بعدها بيومين أوردت الوكالات أول خبر يصدر عن جهة جزائرية مسؤولة، وكان ذلك في الثاني من نوفمبر حيث أعلن أن الحالة الصحية للرئيس بومدين أحسن مما كانت عليه، وعادت التأويلات من جديد وهذه المرة من مدريد حيث أعلن هناك أن الرئيس الجزائري هواري بومدين مصاب بالسرطان.
- بعد ذلك بأسبوع قالت الصحف المصرية في القاهرة إن بومدين يعاني من مرض شديد داخل البلعوم.
- الأخبار السابقة نفاها خبر من مدريد فحواه "أن بومدين يعد لحملة واسعة للتخلص من معارضيه وأنه يعاني من مرض في المسالك البولية".
- بعد يومين من نشر الخبر في إسبانيا أعيد الحديث عن مرضه بالسرطان، واتبع بالأسماء المقترحة خلفاً له.
زكام يوغوسلافيا وحمّى دمشق .. وتأويلات الحلقة الأولى
القصة الكاملة للغز وفاة الرئيس بومدين
2008.07.22
خالد عمر بن ققه
الرئيس الراحل هواري بومدين
عاد الحديث عن اغتيال بومدين إلى واجهة الأحداث من جديد بعد شهادة الوزير العراقي "حامد الجبوري"، والتي كانت عبارة عن مقارنة، لم تستند إلى ما يؤكدها توثيقا أو شهادة علانية صادقة وواضحة، فالقاتل المتهم هو الرئيس صدام، والمغتال هو الرئيس هواري بومدين وكلاهما قدم إلى ما عمل، ما يعني أن لا أحد يطالب بحق الاثنين.
- أيام الخريف.. وأسرار المرض
- شهادة "أوشريف" و"علاهم" و"قاصدي مرباح"
- "إبراهيم سعدة" وتساؤلات الصحافة المصرية
- "فايزة سعد" وحديثٌ مبكرٌ عن قتل الزعيم
كنت أتمنى ألا أعود إلى الموضوع مرة أخرى بعد كتابي "اغتيال بومدين ..الوهم والحقيقة" الصادر عن دار الغد العربي في القاهرة، ودار قصر الكتاب في البليدة-الجزائر عام 1997، وأيضاً بعد جلسة طويلة مع زوجته السيدة "أنيسة"، التي طعنت في جوانب كثيرة مما جاء في الكتاب لكنها لم تقدم بديلا لما رفضته.
العودة أيضا بالنسبة لي كانت مرفوضة لكون القضايا التي تثار في الرأي العام وتهم الدولة ينتظر أن تحول إلى قضايا كبرى يتم الحسم فيها، وبدا التناول آنذاك مجرد حديث في الصحافة لم يترتب عليه رد فعل من السلطات الجزائرية، على الأقل في حدود ما أعلم.
لكن أجدني اليوم مضطرا للحديث في هذا الموضوع باعتباري أول من أشار إليه كتابة بناء على شهادة وزير الدفاع السوري السابق العماد الأول "مصطفى طلاس" بشكلٍ مباشرٍ وعلني بيّن فيه القائم بالفعل، وكان ذلك عكس الحالات السابقة التي اكتفى أصحابها بدغدغة المشاعر على مستوى الصحافة المحلية، أوالإشارة إليه ضمن العداء لبعض الزعماء العرب، تحديداً الرئيس المصري جمال عبد الناصر، والملك السعودي المغتال "فيصل".
الخطان والتصفية . .
الواقع أن البحث في موضوع الاغتيال بالنسبة لي اعتمد على خطين متداخلين، خط المرض ومتابعة الوكالات الصحفية له، وخط المواقف السياسية، وإذا نظرنا للثمن الذي دفعته الأمة لغياب قي قاداتها الفاعلين نجد أن بومدين قد تمت تصفيته بالسم، لكن إذا استحضرنا النهايات لكل كائن حي، فإننا لا نبعد ذلك عن أسباب القدر، وهذه الرؤية، إن جاز اعتبارها كذلك، تعتمد على ما ذهب إليه الصديق العزيز "محفوظ سالمي"، حين كنا في القاهرة، إذ قال لي بالحرف الواحد بعد أن قرأ الكتاب: "لقد أشرت في كتابك عن بومدين لكل أسباب اغتياله واستبعدت قضاء الله وقدره".
لا تزال تلك العبارة محفوظة في الذاكرة كلما استعصى عليّ الأمر لفهم قضية سياسية ما، غير ان هذا لا يحول دون اعتبار بومدين كقائد سياسي وزعيم لشعب وبانٍ لدولته المستقلة، قاعدة ارتكاز للبحث في إشكالية اغتيال الدولة نفسها، فقد سبقته عدد من الاغتيالات السياسية لقادة صنعوا مجد الجزائر ولحقت به أخرى طغت عليها عمليات الإرهاب وكان أكثرها وضوحاً قتل "قاصدي مرباح" و الرئيس "محمد بوضياف".
لقد كان السؤال ولا يزال: لمَاذا لم يؤثر فينا أولئك الراحلين ولا حتى الباقين بدرجة تأثير بومدين؟
بعيداً عن الإجابة، فإنه مثل عقدة في حياتنا، لأن كل الزعامات السياسية التي جاءت بعده ستتحطم على صخرة وفائه للمبادئ وحلمه الكبير وتعامله مع شعبه.
على العموم، فإنه لا يمكن معرفة الاغتيال من عدمه إلا إذا تتبعنا خطوات المرض من خلال الوكالات، وإني لمدينٌ هنما لأرشيف جريدة "الأهرام" ولعمالها بما قدموه لي من مساعدة وما وفروه من وثائق وقصاصات الجرائد، حتى إنني خجلت في بعض الأحيان من اهتمامهم بالموضوع.
المرض.. والتفسير
في ذلك التاريخ، حيث الخريف بلغ منتصفه "نوفمبر 1978" بدأت الصحافة العالمية البحث عن أسرار غياب بومدين عن الظهور، ولم تعرف مرضه إلا في ذلك الوقت مع أنه أصيب به في شهر سبتمبر، ولم تجد إجابة حاسمة لغيابه عن المشهد السياسي فلجأت إلى احتمالات برزت فيما يلي:
- أن بومدين أصيب بالرصاص نتيجة لانقلاب فاشل.
- بعدها بيوم واحد، قالت: لقد سقط فعلاً من الحكم.
- بعد يوم آخر، ذكرت أن مصادر دبلوماسية قد أبلغتها بانقلاب وقع بالفعل ونجى منه بومدين وألقي القبض على العناصر التي قامت به.
- بعد ذلك بيومين أعلنت الوكالات أنه في الاتحاد السوفياتي للتفاوض من أجل السلاح لصالح جبهة الصمود والتحدي الرافضة لمعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل.
- تبعاً للخبر السابق أنه أثناء وجوده في موسكو، عادت للبحث في الداخل وكشفت هذه المرة عن الرائد "علي ملاح" الذي هرب من السجن قد ألقي عليه القبض في إيحاء إلى أن ما ذكرته سابقا خبرٌ مؤكد.
- بعدها بأيام، قالت الوكالات: إن السبب وراء عدم ظهور بومدين هو إصابته بمرضٍ خطير لم تحدده، وإن كانت قد وضعت جملةً من الافتراضات لم تثبت.
- بعد ثلاثة أسابيع من القول باختفاء بومدين جاءت الأخبار من باريس لتناقض ما قيل سابقا، وهي: أن حالة بومدين ليست مثيرةً للقلق ولكنها تحتاج للراحة والعلاج الطويل على يد الأطباء السوفيات.
- بعد هذا بيومين جاء خبر من واشنطن ليؤكد أن الأطباء السوفيات لم يحددوا نوع مرض بومدين.
- الخبر السابق نفسه كذب بطريقة غير مباشرة من مصادر أفريقية "لم تحدد"، حيث ذكرت الوكالات أن بومدين ليس مريضاً وإنما يزور موسكو لطلب المساعدة العسكرية.. وفي نفس اليوم نشر خبر آخر من باريس يدعي أن بومدين فقد صوته وأنه يعاني من آلام في الحلق.
- خمسة أيام بعد ذلك أعلن خبر في الصحافة المغربية بالرباط عن مرض بومدين بدرجة خطيرة.
- بعدها بيومين أوردت الوكالات أول خبر يصدر عن جهة جزائرية مسؤولة، وكان ذلك في الثاني من نوفمبر حيث أعلن أن الحالة الصحية للرئيس بومدين أحسن مما كانت عليه، وعادت التأويلات من جديد وهذه المرة من مدريد حيث أعلن هناك أن الرئيس الجزائري هواري بومدين مصاب بالسرطان.
- بعد ذلك بأسبوع قالت الصحف المصرية في القاهرة إن بومدين يعاني من مرض شديد داخل البلعوم.
- الأخبار السابقة نفاها خبر من مدريد فحواه "أن بومدين يعد لحملة واسعة للتخلص من معارضيه وأنه يعاني من مرض في المسالك البولية".
- بعد يومين من نشر الخبر في إسبانيا أعيد الحديث عن مرضه بالسرطان، واتبع بالأسماء المقترحة خلفاً له.
رد: القصة الكاملة لوفاة بومدين
تــــــــــــــــــــــــا بـــــــــع
- في الجزائر أعلنت وكالة الأنباء الجزائرية عن طرد مراسل صحيفة "لو رور" الفرنسية بسبب ما نشره عن مرض بومدين.
- وفي الأسبوع الأخير من نوفمبر نشرت جريدة "الأنباء" الكويتية خبراً مفاده أن الأطباء لم يتمكنوا من تحديد مرض بومدين.
- في نفس اليوم أيضاً نشرت جريدة "النهار" اللبنانية تؤكد أن فرنسا منعت وقوع انقلاب ضد بومدين في بداية الشهر "أي نوفمبر 1978".
- أخيراً، وبالضبط في 25 نوفمبر، نشرت مختلف وكالات الأنباء العالمية نوع المرض الذي أصيب به بومدين وهو والدنستروم.
- بعد إعلان الخبر السابق لم تضف الوكالات أي خبرٍ آخر، لكن بعيداً عن برقيات الوكالات فإن الوصول إلى تحديد المرض كان ضرورياً لمعرفة ما يواجهه بومدين، حيث إن المعروف أن المرض السابق الذكر عاقبته الموت، وفعلاً توفي بومدين نتيجةً لذلك المرض، لكن ما قصته، وهل اغتيل أم مات موتاً طبيعياً؟
هؤلاء المرضى
في كتاب "هؤلاء المرضى الذين يحكموننا" الصادر بالفرنسية وترجمت بعض فصوله صحيفة الوطن الكويتية، أشار إلى أن بومدين كان يعيش كثيراً من التناقضات، والسبب في ذلك يعود إلى المرض الذي أصيب به وهو والدنستروم، الذي بدأت أول آثاره تظهر على الرئيس منذ أواخر 1973، واتخذت شكل حالات من التعب المجهول، وحالة فقر الدم بدا أن لا مبرر لها، إضافة إلى الهزال الذي ضرب جسم بومدين الهزيل أصلاً.
وإذا صدقت مثل هذه الأقوال فإن بومدين قاوم المرض لمدة فاقت الخمس سنوات، وهذا يعني أن جميع القرارات التي أصدرها في تلك الفترة يعاد فيها النظر، وأعتقد أن الذين تابعوا وقرؤوا خطابات وقرارات بومدين يدركون أن الرجل كان في كامل قواه العقلية وصحته، إذاً فما أهداف الكتابة الغربية؟
واضح أنها محاولة للتشكيك في القرارات التي تتعلق بمصير الأمة، وأن الذين يرفضون المشاريع الاستسلامية في المنطقة تكون نهايتهم مثل بومدين، ثم إنه بالمتابعة للمرض، تاريخياً، يمكن القول إن حالة بومدين الصحية ساءت كثيراً في 24 سبتمبر 1978 أي بعد عودته من دمشق، حيث شارك في قمة دول عربية هناك وبدا عليه التعب بصورة واضحة، فتوجه به أطباؤه فوراً إلى المستشفى العسكري الذي أشارت فحوصه وتحاليله إلى وجود خلل في الأداء الكلوي عند الرئيس، لكن هذا لم يعطِ تفسيراً لما لوحظ عليه وقتها، إذ ظهر عليه شلل خفيف أصاب وجهه.
الموت وقمة الخرطوم
نتيجةً لذلك اعتقد الأطباء الجزائريون أن الأمر يتعلق بسرطان في الكلى وتحديدا في الغدتين الموجودتين فوق الكليتين، فأدخلوا الرئيس إلى قسم الأمراض البولية حيث أظهرت العناية المركزة أن التشخيص الأول غير دقيق، غير أن هناك من يرى في الأقوال السابقة نهاية المرض والدخول في مرحلة الموت، حجته أن علامات المرض بدت على الرئيس قبل ذلك بشهور أي بعد أن عاد من يوغوسلافيا وبعد عودته من قمة الخرطوم التي تصدرت جدول أعمالها موضوعات عربية ساخنة، من ذلك السلام بين مصر وإسرائيل والقضية الفلسطينية وقضية الصحراء الغربية.
وترى بعض الأوساط الجزائرية المطلعة أن بومدين بعد عودته من الخرطوم توجه ليوغوسلافيا، وهناك تعرض للمرض وأجرى فحوصات وقضى أياماً للاستجمام والراحة، وهذا يعني أن زيارته للعراق وسوريا جاءت بعد ذلك، وأن قصة المرض لم تكن من بغداد، وإذا صدقت هذه المعلومة فإن الرئيس الراحل صدام حسين بريء من تهمة الاغتيال، ولا أدري لماذا لم أنتبه لهذا عند كتابتي لمؤلفي "اغتيال بومدين" منذ إحدى عشر سنة خلت، ربما قد يجد لي القارئ عذراً في تلك الأقوال التي أكدتها أطراف جزائرية أخرى ترى أن ظهور المرض الذي أدى به إلى الغيبوبة ثم الموت كان في سوريا.
من ناحية أخرى فإن عدة جماعات مسؤولة في الجزائر تقول إن "عبد المجيد علاهم" مدير التشريفات آنذاك أكد عدة مرات على أن المرض ظهر على بومدين عند وصوله إلى سوريا، وقد اضطر إلى عدم المشاركة في المؤتمر والعوة سريعا للجزائر وهذا يعني أن المرض كان من خارج سوريا.
لاشك أن الشهادات المختلفة تعطي انطباعاً بأنه يصعب اتهام طرف بعينه باغتيال بومدين، وأن تهمة صدام حسين يجب أن يعاد النظر فيها بناء على الحالة التي آل إليها رغم اتهامات طلاس له.
من ناحية أخرى فإنه بعد عودته من يوغوسلافيا اشتد عليه السعال وكان معروفاً بحساسيته المفرطة تجاه البرد والزكام، ورغم حرارة الجو في ذلك الوقت أحس الرئيس برعشة شديدة وحالة برد، فطلب من أحد وزرائه إحضار طبيب يفحصه.
حيرة الدكتور "أو شريف"
وتذهب الكاتبة الصحفية "فايزة سعد" في مجلة روز اليوسف في مقالٍ طويل منشور على أربع صفحات بتاريخ 30 مارس 1992 إلى التأكيد على أن بومدين مات مقتولاً، ومن بين ما ذُكِر في تقريرها السابق "جاء الدكتور "عبد الحفيظ أو شريف" واستغرق في فحص الرئيس فترة طويلة، لكنه لم يصل إلى نتيجة محددة، واقترح توصيل الرئيس للمستشفى المركزي لإجراء مزيد من الفحوصات".
بعد إجراء سلسلة طويلة من الكشوفات الطبية أدرك كبار أطباء الجزائر أن بومدين مصاب بمرض غير واضح المعالم، لذلك اقترح الدكتور أو شريف أن يحمل صور الأشعة إلى ميدنة "ليون" الفرنسية حيث يمكن أن يعرضها على بعض أصدقائه الأطباء المختصين.
بعد أيام عاد أوشريف بحقيبة مغلقة داخلها تقرير سري عن حالة هذا المريض الذي لم يكشف عن اسمه لأصدقائه الفرنسيين، ومسألة إخفاء اسم بومدين أو عرض ملفه الطبي تحت اسم آخر أكدها أكثر من مرة الراحل "قاصدي مرباح" وقد سمعتها منه كما سمعها كثير من الشباب في مدينة سطيف "ديسمبر 1990" بمناسبة الاحتفال بذكرى وفاة بومدين.
لقد أوضح التشخيص أن بومدين مصاب بسرطان في المثانة ويجب أن يدخل غرفة العمليات فور استئصال الورم الخبيث، والأفضل أن يتم في إحدى المستشفيات الغربية، والأحسن أن تتم مراحل العلاج في المستشفى الأمريكي ورفض بومدين أن يعالج في الغرب لكرهه الشديد له وخوفه من التعرض لحملة إعلامية شديدة هناك.
أجل بومدين العلاج وكأنه لا يبالي وانغمس في مسؤولياته وسافر بعد ذلك إلى دمشق، وفي يوم السفر اشتد الألم عليه فاصطحبه طبيبه الخاص وسط إجراءات أمنية محددة حتى لا يكتشف أحد مرضه، وأثناء وجوده في دمشق التزم بالبقاء شبه الدائم بمقر إقامته حيث لم يظهر لمندوبي الصحف، ولم يخرج للقيام بزيارات إلا في حالات نادرة جدا.
الطريق إلى موسكو
بعد عودة بومدين بعشرة أيام من سوريا بدأ الاتصال بموسكو وهذا حسب القراءات الغربية، في حين يرى السوفيات أن الاتصال تم قبل ذلك بمدة خمسة أيام أي في 5 أكتوبر، حيث يقول " شازوف" كبير أطباء الكريملن أن الجزائريين بدأوا الاتصال بالمسؤولين السوفيات في أيام سبتمبر، غير أن هناك من يذهب إلى القول إن بومدين سافر بالفعل يوم 5 أكتوبر 1978 إلى موسكو ويسرد القصة على النحو التالي:
في يوم 5 أكتوبر الماضي كانت الطائرة الجزائرية تستعد للإقلاع في طريقها إلى موسكو، طائرة عادية، ورحلة معتادة، وركابها قليلون يعدون على أصابع اليد الواحدة، والمعروف أن هذا الخط الجزائر _ موسكو لا يستخدمه إلا كبار الزوار من الجزائريين والسوفيات، وطائرة شركة الخطوط الجوية الجزائرية التي تعمل في هذا الخط تقلع عادةً شبه خالية من الركاب، وعلى غير العادة في هذا اليوم فوجئ الركاب القليلون بمن يطلب منهم النزول من الطائرة التي كانت تستعد للإقلاع بالفعل، ولم تقدم لهم أي تفسيرات لإلغاء سفرهم وإبعادهم من الطائرة ومن المطار ذاته، وحتى لو سأل الركاب عن السبب فإن أحداً لم يكن في استطاعته الإجابة.
ويضيف الصحفي المصري "إبراهيم سعدة" في تحقيق نشره في أخبار اليوم بعنوان "سر اختفاء بومدين" في 8 نوفمبر 1978 أن الركاب الأربعة أبعدوا من الطائرة في اللحظة التي وصلت فيها ثلاث سيارات تابعة للأمن الحربي "العسكري" الجزائري وتوقفت عند سلم الطائرة، وبسرعة البرق نزل ركاب السيارات وصعدوا إلى الطائرة التي أقلعت على الفور في طريقها إلى موسكو، وكان الرئيس هواري بومدين أحد هؤلاء الركاب.. طار سراً إلى موسكو بلا مراسيم التوديع المعتادة، وبلا دقات الطبول أو صفير المزامير.
ومن باب التذكير فقد بدأ الصحفي إبراهيم سعدة تحقيقه السابق بالقول: "..فالحاكم في الدول التي تحكم بالرأي الواحد وتساق بالقرار الأوحد مثل الجزائر يتصور أنه تعدى مرحلة البشر، بمعنى أنه لا يمرض كما يمرضون ولا يتداعى صحيا كما يتداعون".
لقد أوردت هذه الفقرة للكشف عن أهمية الصراع الدائر آنذاك بين القاهرة والجزائر حول اتفاقية "كامب ديفيد".
المهم أن خبر سفر بومدين يوم 5 أكتوبر إلى موسكو جاءت به عديد من الصحف، من ذلك ما أوردته مجلة "باري متش" الذي نقلته صحيفة الأهرام المصرية، وجاء فيه: أن هناك طائرة عادية كان من المفروض أن تغادر الجزائر على التاسعة والربع صباحا، لكن لم تسافر في الوقت المحدد وأنزل منها ركابها الأربعة..للعلم فإن التحقيق طرح في بدايته جملة من الأسئلة في عنوانه حيث ذهب إلى القول: ما الذي يجري في الجزائر؟ أو ما الذي يمكن أن يجري في الجزائر في المستقبل القريب؟ كما أن صحيفة الأهرام أسبقت ترجمتها بملاحظة جاء فيها: "ننشره دون تعليق ونترك كل سطر فيه يتحدث عن نفسه"، وقد تزامن هذا مع تحقيق "إبراهيم سعدة" في "الأخبار" السابق ذكره.
وبغض النظر عن التاريخ الذي سافر فيه بومدين للعلاج في موسكو، فإن أول من تعامل معه هم الأطباء السوفيات الذين أجروا له الفحوص الأولية، وقد اتسعت دائرة متابعته إلى الأطباء الغربيين والعرب، فهل من أدلة أو قرائن تشير إلى اغتياله عند معالجته؟ : نتابع تفصيلات ذلك في الحلقة المقبلة.
في الحلقة المقبلة:
الدولة الجزائرية.. وزحف الأطباء
- المسؤولون الجزائريون والأنابيب.. والتعجيل بالموت
- أسرار المرض وخوف السوفيات .. وحسم الزعيم
- حكومات وأطباء وخصومات في اللحظات الأخيرة
- في الجزائر أعلنت وكالة الأنباء الجزائرية عن طرد مراسل صحيفة "لو رور" الفرنسية بسبب ما نشره عن مرض بومدين.
- وفي الأسبوع الأخير من نوفمبر نشرت جريدة "الأنباء" الكويتية خبراً مفاده أن الأطباء لم يتمكنوا من تحديد مرض بومدين.
- في نفس اليوم أيضاً نشرت جريدة "النهار" اللبنانية تؤكد أن فرنسا منعت وقوع انقلاب ضد بومدين في بداية الشهر "أي نوفمبر 1978".
- أخيراً، وبالضبط في 25 نوفمبر، نشرت مختلف وكالات الأنباء العالمية نوع المرض الذي أصيب به بومدين وهو والدنستروم.
- بعد إعلان الخبر السابق لم تضف الوكالات أي خبرٍ آخر، لكن بعيداً عن برقيات الوكالات فإن الوصول إلى تحديد المرض كان ضرورياً لمعرفة ما يواجهه بومدين، حيث إن المعروف أن المرض السابق الذكر عاقبته الموت، وفعلاً توفي بومدين نتيجةً لذلك المرض، لكن ما قصته، وهل اغتيل أم مات موتاً طبيعياً؟
هؤلاء المرضى
في كتاب "هؤلاء المرضى الذين يحكموننا" الصادر بالفرنسية وترجمت بعض فصوله صحيفة الوطن الكويتية، أشار إلى أن بومدين كان يعيش كثيراً من التناقضات، والسبب في ذلك يعود إلى المرض الذي أصيب به وهو والدنستروم، الذي بدأت أول آثاره تظهر على الرئيس منذ أواخر 1973، واتخذت شكل حالات من التعب المجهول، وحالة فقر الدم بدا أن لا مبرر لها، إضافة إلى الهزال الذي ضرب جسم بومدين الهزيل أصلاً.
وإذا صدقت مثل هذه الأقوال فإن بومدين قاوم المرض لمدة فاقت الخمس سنوات، وهذا يعني أن جميع القرارات التي أصدرها في تلك الفترة يعاد فيها النظر، وأعتقد أن الذين تابعوا وقرؤوا خطابات وقرارات بومدين يدركون أن الرجل كان في كامل قواه العقلية وصحته، إذاً فما أهداف الكتابة الغربية؟
واضح أنها محاولة للتشكيك في القرارات التي تتعلق بمصير الأمة، وأن الذين يرفضون المشاريع الاستسلامية في المنطقة تكون نهايتهم مثل بومدين، ثم إنه بالمتابعة للمرض، تاريخياً، يمكن القول إن حالة بومدين الصحية ساءت كثيراً في 24 سبتمبر 1978 أي بعد عودته من دمشق، حيث شارك في قمة دول عربية هناك وبدا عليه التعب بصورة واضحة، فتوجه به أطباؤه فوراً إلى المستشفى العسكري الذي أشارت فحوصه وتحاليله إلى وجود خلل في الأداء الكلوي عند الرئيس، لكن هذا لم يعطِ تفسيراً لما لوحظ عليه وقتها، إذ ظهر عليه شلل خفيف أصاب وجهه.
الموت وقمة الخرطوم
نتيجةً لذلك اعتقد الأطباء الجزائريون أن الأمر يتعلق بسرطان في الكلى وتحديدا في الغدتين الموجودتين فوق الكليتين، فأدخلوا الرئيس إلى قسم الأمراض البولية حيث أظهرت العناية المركزة أن التشخيص الأول غير دقيق، غير أن هناك من يرى في الأقوال السابقة نهاية المرض والدخول في مرحلة الموت، حجته أن علامات المرض بدت على الرئيس قبل ذلك بشهور أي بعد أن عاد من يوغوسلافيا وبعد عودته من قمة الخرطوم التي تصدرت جدول أعمالها موضوعات عربية ساخنة، من ذلك السلام بين مصر وإسرائيل والقضية الفلسطينية وقضية الصحراء الغربية.
وترى بعض الأوساط الجزائرية المطلعة أن بومدين بعد عودته من الخرطوم توجه ليوغوسلافيا، وهناك تعرض للمرض وأجرى فحوصات وقضى أياماً للاستجمام والراحة، وهذا يعني أن زيارته للعراق وسوريا جاءت بعد ذلك، وأن قصة المرض لم تكن من بغداد، وإذا صدقت هذه المعلومة فإن الرئيس الراحل صدام حسين بريء من تهمة الاغتيال، ولا أدري لماذا لم أنتبه لهذا عند كتابتي لمؤلفي "اغتيال بومدين" منذ إحدى عشر سنة خلت، ربما قد يجد لي القارئ عذراً في تلك الأقوال التي أكدتها أطراف جزائرية أخرى ترى أن ظهور المرض الذي أدى به إلى الغيبوبة ثم الموت كان في سوريا.
من ناحية أخرى فإن عدة جماعات مسؤولة في الجزائر تقول إن "عبد المجيد علاهم" مدير التشريفات آنذاك أكد عدة مرات على أن المرض ظهر على بومدين عند وصوله إلى سوريا، وقد اضطر إلى عدم المشاركة في المؤتمر والعوة سريعا للجزائر وهذا يعني أن المرض كان من خارج سوريا.
لاشك أن الشهادات المختلفة تعطي انطباعاً بأنه يصعب اتهام طرف بعينه باغتيال بومدين، وأن تهمة صدام حسين يجب أن يعاد النظر فيها بناء على الحالة التي آل إليها رغم اتهامات طلاس له.
من ناحية أخرى فإنه بعد عودته من يوغوسلافيا اشتد عليه السعال وكان معروفاً بحساسيته المفرطة تجاه البرد والزكام، ورغم حرارة الجو في ذلك الوقت أحس الرئيس برعشة شديدة وحالة برد، فطلب من أحد وزرائه إحضار طبيب يفحصه.
حيرة الدكتور "أو شريف"
وتذهب الكاتبة الصحفية "فايزة سعد" في مجلة روز اليوسف في مقالٍ طويل منشور على أربع صفحات بتاريخ 30 مارس 1992 إلى التأكيد على أن بومدين مات مقتولاً، ومن بين ما ذُكِر في تقريرها السابق "جاء الدكتور "عبد الحفيظ أو شريف" واستغرق في فحص الرئيس فترة طويلة، لكنه لم يصل إلى نتيجة محددة، واقترح توصيل الرئيس للمستشفى المركزي لإجراء مزيد من الفحوصات".
بعد إجراء سلسلة طويلة من الكشوفات الطبية أدرك كبار أطباء الجزائر أن بومدين مصاب بمرض غير واضح المعالم، لذلك اقترح الدكتور أو شريف أن يحمل صور الأشعة إلى ميدنة "ليون" الفرنسية حيث يمكن أن يعرضها على بعض أصدقائه الأطباء المختصين.
بعد أيام عاد أوشريف بحقيبة مغلقة داخلها تقرير سري عن حالة هذا المريض الذي لم يكشف عن اسمه لأصدقائه الفرنسيين، ومسألة إخفاء اسم بومدين أو عرض ملفه الطبي تحت اسم آخر أكدها أكثر من مرة الراحل "قاصدي مرباح" وقد سمعتها منه كما سمعها كثير من الشباب في مدينة سطيف "ديسمبر 1990" بمناسبة الاحتفال بذكرى وفاة بومدين.
لقد أوضح التشخيص أن بومدين مصاب بسرطان في المثانة ويجب أن يدخل غرفة العمليات فور استئصال الورم الخبيث، والأفضل أن يتم في إحدى المستشفيات الغربية، والأحسن أن تتم مراحل العلاج في المستشفى الأمريكي ورفض بومدين أن يعالج في الغرب لكرهه الشديد له وخوفه من التعرض لحملة إعلامية شديدة هناك.
أجل بومدين العلاج وكأنه لا يبالي وانغمس في مسؤولياته وسافر بعد ذلك إلى دمشق، وفي يوم السفر اشتد الألم عليه فاصطحبه طبيبه الخاص وسط إجراءات أمنية محددة حتى لا يكتشف أحد مرضه، وأثناء وجوده في دمشق التزم بالبقاء شبه الدائم بمقر إقامته حيث لم يظهر لمندوبي الصحف، ولم يخرج للقيام بزيارات إلا في حالات نادرة جدا.
الطريق إلى موسكو
بعد عودة بومدين بعشرة أيام من سوريا بدأ الاتصال بموسكو وهذا حسب القراءات الغربية، في حين يرى السوفيات أن الاتصال تم قبل ذلك بمدة خمسة أيام أي في 5 أكتوبر، حيث يقول " شازوف" كبير أطباء الكريملن أن الجزائريين بدأوا الاتصال بالمسؤولين السوفيات في أيام سبتمبر، غير أن هناك من يذهب إلى القول إن بومدين سافر بالفعل يوم 5 أكتوبر 1978 إلى موسكو ويسرد القصة على النحو التالي:
في يوم 5 أكتوبر الماضي كانت الطائرة الجزائرية تستعد للإقلاع في طريقها إلى موسكو، طائرة عادية، ورحلة معتادة، وركابها قليلون يعدون على أصابع اليد الواحدة، والمعروف أن هذا الخط الجزائر _ موسكو لا يستخدمه إلا كبار الزوار من الجزائريين والسوفيات، وطائرة شركة الخطوط الجوية الجزائرية التي تعمل في هذا الخط تقلع عادةً شبه خالية من الركاب، وعلى غير العادة في هذا اليوم فوجئ الركاب القليلون بمن يطلب منهم النزول من الطائرة التي كانت تستعد للإقلاع بالفعل، ولم تقدم لهم أي تفسيرات لإلغاء سفرهم وإبعادهم من الطائرة ومن المطار ذاته، وحتى لو سأل الركاب عن السبب فإن أحداً لم يكن في استطاعته الإجابة.
ويضيف الصحفي المصري "إبراهيم سعدة" في تحقيق نشره في أخبار اليوم بعنوان "سر اختفاء بومدين" في 8 نوفمبر 1978 أن الركاب الأربعة أبعدوا من الطائرة في اللحظة التي وصلت فيها ثلاث سيارات تابعة للأمن الحربي "العسكري" الجزائري وتوقفت عند سلم الطائرة، وبسرعة البرق نزل ركاب السيارات وصعدوا إلى الطائرة التي أقلعت على الفور في طريقها إلى موسكو، وكان الرئيس هواري بومدين أحد هؤلاء الركاب.. طار سراً إلى موسكو بلا مراسيم التوديع المعتادة، وبلا دقات الطبول أو صفير المزامير.
ومن باب التذكير فقد بدأ الصحفي إبراهيم سعدة تحقيقه السابق بالقول: "..فالحاكم في الدول التي تحكم بالرأي الواحد وتساق بالقرار الأوحد مثل الجزائر يتصور أنه تعدى مرحلة البشر، بمعنى أنه لا يمرض كما يمرضون ولا يتداعى صحيا كما يتداعون".
لقد أوردت هذه الفقرة للكشف عن أهمية الصراع الدائر آنذاك بين القاهرة والجزائر حول اتفاقية "كامب ديفيد".
المهم أن خبر سفر بومدين يوم 5 أكتوبر إلى موسكو جاءت به عديد من الصحف، من ذلك ما أوردته مجلة "باري متش" الذي نقلته صحيفة الأهرام المصرية، وجاء فيه: أن هناك طائرة عادية كان من المفروض أن تغادر الجزائر على التاسعة والربع صباحا، لكن لم تسافر في الوقت المحدد وأنزل منها ركابها الأربعة..للعلم فإن التحقيق طرح في بدايته جملة من الأسئلة في عنوانه حيث ذهب إلى القول: ما الذي يجري في الجزائر؟ أو ما الذي يمكن أن يجري في الجزائر في المستقبل القريب؟ كما أن صحيفة الأهرام أسبقت ترجمتها بملاحظة جاء فيها: "ننشره دون تعليق ونترك كل سطر فيه يتحدث عن نفسه"، وقد تزامن هذا مع تحقيق "إبراهيم سعدة" في "الأخبار" السابق ذكره.
وبغض النظر عن التاريخ الذي سافر فيه بومدين للعلاج في موسكو، فإن أول من تعامل معه هم الأطباء السوفيات الذين أجروا له الفحوص الأولية، وقد اتسعت دائرة متابعته إلى الأطباء الغربيين والعرب، فهل من أدلة أو قرائن تشير إلى اغتياله عند معالجته؟ : نتابع تفصيلات ذلك في الحلقة المقبلة.
في الحلقة المقبلة:
الدولة الجزائرية.. وزحف الأطباء
- المسؤولون الجزائريون والأنابيب.. والتعجيل بالموت
- أسرار المرض وخوف السوفيات .. وحسم الزعيم
- حكومات وأطباء وخصومات في اللحظات الأخيرة
القصة الكاملة لوفاة الرئيس بومدين الحلقة الثانية تابع
القصة الكاملة لوفاة الرئيس بومدين الحلقة الثاني تـــــــــــــا بـــــع
الدولة الجزائرية... وزحف الأطباء
2008.07.23
خالد عمر بن ققه
الرئيس الراحل رفقة زوجته أنيسة
انتهينا في الحلقة السابقة إلى سؤالٍ يمثل إشكاليةً بالنسبة للمهتمين بحياة بومدين، هي: محاولة جادة لمعرفة إن كان قد تعرض للاغتيال عند معالجته من طرف الأطباء؟ وهو سؤال لم يتبع بإجابةٍ ذات طابعٍ مؤامراتي، وإن كانت تصريحات الأطباء بعد وفاة بومدين بسنوات قد أشارت بوضوح إلى صراعٍ بين مدارس الطب الغربية والمدرسة الروسية في ذلك الوقت.
* المسؤولون الجزائريون والأنابيب... والتعجيل بالموت
* أسرار المرض وخوف السوفيات... وحسم الزعيم
* حكومات وأطباء وخصومات في اللحظات الأخيرة
وبغض النظر عن تعليقات الأطباء وتصريحاتهم، فإن الاهتمام الذي أولته الدولة الجزائرية للحالة الصحية للزعيم الراحل يمثل مفخرةً، مما يبعد الشك الذي ساد إلى حينٍ من الوقت وتركز حول قناعة البعض من أن أطرافاً جزائرية ساهمت في اغتياله، إن لم يمكن بشكلٍ مباشر فبطريقةٍ غير مباشرة، من ذلك عدم الاهتمام بصحته.
المتهمون الثلاثة
الرؤية السابقة لمرض بومدين وبراءة المسؤولين في الدولة، بل وخوفهم على حياة بومدين، لا ينفي أقوالاً أخرى رُوِّجت، قد تكون صحيحةً في مجملها وإن كانت غير ذلك في التفصيلات، من هذه الأقوال:
- اضطر مسؤولون مؤثرون في صناعة القرار، وهم ثلاثة، بعد أن دخل بومدين في غيبوبة طويلة وصار ميئوساً من شفائه إلى اتخاذ موقفٍ جريءٍ ربما لم يكونوا هم أنفسهم راضين عنه، وهو نزع الأنابيب التي كانت تمد بومدين باستمرارية البقاء على قيد الحياة.
إن صحت هذه الأقوال فإننا نجد أنفسنا اليوم أمام السؤال التالي: ماذا يفعل المسؤول أو الراعي إذا كان من مصلحة الدولة التعجيل بوفاة قائدٍ ما؟... لا شك أن للمسألة بعداً دينياً وهي متروكة لذوي الاختصاص، هذا إذا سلمنا أن الأمر في حالة بومدين مقصودٌ به إنقاذ الدولة وليس التعجيل بالاستيلاء على الحكم.
لا تزال لحظة نزع الأنابيب مؤثرةً إلى أبعد حد ولدرجة البكاء لأولئك الذين عاشوا اللحظات الأخيرة لوفاة بومدين، وعليّ أن أؤكد هنا أنّي لست طرفاً في هذا الموضوع لأن راوي القصة شخص واحد، ولم يتسنَّ لي أن أقابل المعنيين بالأمر أو حتى أطرح عليهم الموضوع لسببين رئيسيين: الأول: أنني تعهدت للشاهد بأن لا أذكر أسماءهم حسب طلبه، والثاني: خوفاً عليه وأيضاً خوفاً على علاقة السلطة ونمطها في الدولة الجزائرية من أن نعود مرة أخرى لفتح ملفات باتت بحكم الواقع ماضٍ، والناس اليوم في بلادنا يهمهم الحاضر كما أنهم يرفضون أن يظلوا تحت رحمة ذكريات الماضي.
المهم أن السلطات الجزائرية وفي أعلى المستويات اهتمت بمرض بومدين لدرجة تبعد عنها أي اتهامٍ بالتراخي أو التخاذل، ومع ذلك فإنها لم تستطع أن تكون بعيدة عن الصدام بين الغرب والشرق في مجال الطب.
شهادة »يافاجيني«
وإذا كانت »بروسترويكا« الرئيس الروسي السابق »ميخائيل جورباتشوف« قد أثرت سلباً على بلاده، فإنها من ناحيةٍ أخرى كشفت عن أسرارٍ تعلقت بالعلاقات الدولية، ما كان لنا أن نعرفها لولا السقوط المروّع لتلك الإمبراطورية، مما ساعد على معرفة كثير من الأسرار ومن بينها تلك المتعلقة بصحة الرؤساء والقادة، وهو ما يظهر جلياً في كتاب »شازوف يافاجيني« كبير أطباء الكريملن والذي نشره تحت عنوان »السلطة والصحة«... يهمّنا هنا الجزء الخاص بمرض الرئيس هواري بومدين، والذي نُشِر في صحيفة »الأنباء« الكويتية بتاريخ 25 نوفمبر 1992، وقامت بترجمته الدكتورة »إيمان يحيى«.
فقد ذهبت الصحيفة »الأنباء« الكويتية، للقول إلى أن ما ذكره البروفيسور يافاجيني يعد إحدى مفاجآته، ورأت أن ما تضمنه الكتاب عن وفاة بومدين فتح الباب واسعاً للملابسات السياسية التي أطاحت بالزعيم الجزائري من تاريخ بلاده والمنطقة العربية، ويضع أمام الجميع مسؤولية فتح ملفات موت ومرض الرئيس الجزائري من جديد.
بعد هذا التعليق تترك الصحيفة شازوف يتحدث عبر مقاطع ترجمتها من كتابه حيث يقول: »واجه الإدارة الرابعة التابعة لوزارة الصحة السوفياتية على الصعيد الداخلي إحباط، سعت دوائر معينة في الشرق والغرب للاستفادة منه لتحقيق أهدافها السياسية... ولقد سادت في الأحداث غُربةٌ، رغم أنني خبرت خلال عملي كافة النوازع الأنانية والشريرة للزعماء السياسيين ومراعاة المصالح القومية بين الدول المتنازعة، وكانت قمة ما حدث لمرحلة علاج الرئيس الأسبق هواري بومدين واحدة من هذه الإحباطات والأحداث الغريبة التي تكشف عن اللاّأخلاقية التي تنطوي عليها الصراعات السياسية أحياناً«.
وأضاف شازوف: »كانت قمة المأساة في محاولة استغلال مرض واحتضار زعيمٍ عربيٍ كبير من أجل غاياتٍ سياسية خسيسة، ولزعزعة الثقة بيننا وبين الجزائر وبث الكراهية من خلال التشكيك في الطب الروسي«.
السؤال هنا ما هي اللاّأخلاقية التي يتحدث عنها الطبيب شازوف وكيف استغل مرض بومدين من طرف الغرب، وهل فعلاً زعزع مرضه الثقة بين السوفيات والجزائريين، وهل الصراع بين الشرق والغرب يشمل كل المجالات بما في ذلك الإنسانية والتي منها المرض والعلاج؟.
»كوسيجين« وغيوم سبتمبر
قد نجد إجابات الأسئلة السابقة، أو بعضاً منها، في أقوال وشهادات البروفيسور شازوف، الذي يواصل حديثه قائلاً:
»تبدأ القصة أيام شهر سبتمبر الملبّد بالغيوم عام 1978... اتصل بي »أليكسي كوسيجين« رئيس الوزراء السوفياتي آنذاك، وقال بينما جاء صوته مضطرباً عبر الهاتف:
- لقد وصلتني للتو برقية من الجزائر تخبرنا بأن الرئيس »هواري بومدين« قد استقلّ الطائرة صباح اليوم متجهاً إلى موسكو للعلاج.
توقف لحظةً كوسيجين وأضاف وفي نبرة صوته الدهشة:
- الغريب أن هذا الطلب جاء مفاجئاً، إذ لم تطلب الجزائر من قبل تنظيم رحلة علاجٍ لبومدين.
ثم سألني كوسيجين:
- ربما تعرف شيئاً عن هذا الموضوع...
أجبته: إنني مثله تماماً أسمع بالنبأ للمرة الأولى.
ثم يضيف شازوف قائلاً:
- أتذكر أن كوسيجين أضاف قائلاً في المكالمة الهاتفية ذاتها: يبدو أن شيئاً غير طبيعي حدث!
وأشار إلى أنه من غير المستبعد أن يكون بومدين مريضاً وأن المسؤولين في الجزائر يحاولون إخفاء طبيعة مرض زعيمهم كما يحدث في البلاد العربية عادة، وأن دبلوماسيين في الجزائر لم يتابعوا الموقف جيداً ليعرفوا ماذا حدث.
انتهت مكالمة كوسيجين بتكليف شازوف باستقبال بومدين لدى هبوطه في المطار ونقله للعلاج فوراً، واقترح أن يقيم بومدين في مستشفى شارع »ميننستورنسكي« في موسكو، حيث القليل من المرضى مما يمكن السوفيات من الحفاظ على سرية رحلة الرئيس الجزائري وإخفاء شخصيته
الدولة الجزائرية... وزحف الأطباء
2008.07.23
خالد عمر بن ققه
الرئيس الراحل رفقة زوجته أنيسة
انتهينا في الحلقة السابقة إلى سؤالٍ يمثل إشكاليةً بالنسبة للمهتمين بحياة بومدين، هي: محاولة جادة لمعرفة إن كان قد تعرض للاغتيال عند معالجته من طرف الأطباء؟ وهو سؤال لم يتبع بإجابةٍ ذات طابعٍ مؤامراتي، وإن كانت تصريحات الأطباء بعد وفاة بومدين بسنوات قد أشارت بوضوح إلى صراعٍ بين مدارس الطب الغربية والمدرسة الروسية في ذلك الوقت.
* المسؤولون الجزائريون والأنابيب... والتعجيل بالموت
* أسرار المرض وخوف السوفيات... وحسم الزعيم
* حكومات وأطباء وخصومات في اللحظات الأخيرة
وبغض النظر عن تعليقات الأطباء وتصريحاتهم، فإن الاهتمام الذي أولته الدولة الجزائرية للحالة الصحية للزعيم الراحل يمثل مفخرةً، مما يبعد الشك الذي ساد إلى حينٍ من الوقت وتركز حول قناعة البعض من أن أطرافاً جزائرية ساهمت في اغتياله، إن لم يمكن بشكلٍ مباشر فبطريقةٍ غير مباشرة، من ذلك عدم الاهتمام بصحته.
المتهمون الثلاثة
الرؤية السابقة لمرض بومدين وبراءة المسؤولين في الدولة، بل وخوفهم على حياة بومدين، لا ينفي أقوالاً أخرى رُوِّجت، قد تكون صحيحةً في مجملها وإن كانت غير ذلك في التفصيلات، من هذه الأقوال:
- اضطر مسؤولون مؤثرون في صناعة القرار، وهم ثلاثة، بعد أن دخل بومدين في غيبوبة طويلة وصار ميئوساً من شفائه إلى اتخاذ موقفٍ جريءٍ ربما لم يكونوا هم أنفسهم راضين عنه، وهو نزع الأنابيب التي كانت تمد بومدين باستمرارية البقاء على قيد الحياة.
إن صحت هذه الأقوال فإننا نجد أنفسنا اليوم أمام السؤال التالي: ماذا يفعل المسؤول أو الراعي إذا كان من مصلحة الدولة التعجيل بوفاة قائدٍ ما؟... لا شك أن للمسألة بعداً دينياً وهي متروكة لذوي الاختصاص، هذا إذا سلمنا أن الأمر في حالة بومدين مقصودٌ به إنقاذ الدولة وليس التعجيل بالاستيلاء على الحكم.
لا تزال لحظة نزع الأنابيب مؤثرةً إلى أبعد حد ولدرجة البكاء لأولئك الذين عاشوا اللحظات الأخيرة لوفاة بومدين، وعليّ أن أؤكد هنا أنّي لست طرفاً في هذا الموضوع لأن راوي القصة شخص واحد، ولم يتسنَّ لي أن أقابل المعنيين بالأمر أو حتى أطرح عليهم الموضوع لسببين رئيسيين: الأول: أنني تعهدت للشاهد بأن لا أذكر أسماءهم حسب طلبه، والثاني: خوفاً عليه وأيضاً خوفاً على علاقة السلطة ونمطها في الدولة الجزائرية من أن نعود مرة أخرى لفتح ملفات باتت بحكم الواقع ماضٍ، والناس اليوم في بلادنا يهمهم الحاضر كما أنهم يرفضون أن يظلوا تحت رحمة ذكريات الماضي.
المهم أن السلطات الجزائرية وفي أعلى المستويات اهتمت بمرض بومدين لدرجة تبعد عنها أي اتهامٍ بالتراخي أو التخاذل، ومع ذلك فإنها لم تستطع أن تكون بعيدة عن الصدام بين الغرب والشرق في مجال الطب.
شهادة »يافاجيني«
وإذا كانت »بروسترويكا« الرئيس الروسي السابق »ميخائيل جورباتشوف« قد أثرت سلباً على بلاده، فإنها من ناحيةٍ أخرى كشفت عن أسرارٍ تعلقت بالعلاقات الدولية، ما كان لنا أن نعرفها لولا السقوط المروّع لتلك الإمبراطورية، مما ساعد على معرفة كثير من الأسرار ومن بينها تلك المتعلقة بصحة الرؤساء والقادة، وهو ما يظهر جلياً في كتاب »شازوف يافاجيني« كبير أطباء الكريملن والذي نشره تحت عنوان »السلطة والصحة«... يهمّنا هنا الجزء الخاص بمرض الرئيس هواري بومدين، والذي نُشِر في صحيفة »الأنباء« الكويتية بتاريخ 25 نوفمبر 1992، وقامت بترجمته الدكتورة »إيمان يحيى«.
فقد ذهبت الصحيفة »الأنباء« الكويتية، للقول إلى أن ما ذكره البروفيسور يافاجيني يعد إحدى مفاجآته، ورأت أن ما تضمنه الكتاب عن وفاة بومدين فتح الباب واسعاً للملابسات السياسية التي أطاحت بالزعيم الجزائري من تاريخ بلاده والمنطقة العربية، ويضع أمام الجميع مسؤولية فتح ملفات موت ومرض الرئيس الجزائري من جديد.
بعد هذا التعليق تترك الصحيفة شازوف يتحدث عبر مقاطع ترجمتها من كتابه حيث يقول: »واجه الإدارة الرابعة التابعة لوزارة الصحة السوفياتية على الصعيد الداخلي إحباط، سعت دوائر معينة في الشرق والغرب للاستفادة منه لتحقيق أهدافها السياسية... ولقد سادت في الأحداث غُربةٌ، رغم أنني خبرت خلال عملي كافة النوازع الأنانية والشريرة للزعماء السياسيين ومراعاة المصالح القومية بين الدول المتنازعة، وكانت قمة ما حدث لمرحلة علاج الرئيس الأسبق هواري بومدين واحدة من هذه الإحباطات والأحداث الغريبة التي تكشف عن اللاّأخلاقية التي تنطوي عليها الصراعات السياسية أحياناً«.
وأضاف شازوف: »كانت قمة المأساة في محاولة استغلال مرض واحتضار زعيمٍ عربيٍ كبير من أجل غاياتٍ سياسية خسيسة، ولزعزعة الثقة بيننا وبين الجزائر وبث الكراهية من خلال التشكيك في الطب الروسي«.
السؤال هنا ما هي اللاّأخلاقية التي يتحدث عنها الطبيب شازوف وكيف استغل مرض بومدين من طرف الغرب، وهل فعلاً زعزع مرضه الثقة بين السوفيات والجزائريين، وهل الصراع بين الشرق والغرب يشمل كل المجالات بما في ذلك الإنسانية والتي منها المرض والعلاج؟.
»كوسيجين« وغيوم سبتمبر
قد نجد إجابات الأسئلة السابقة، أو بعضاً منها، في أقوال وشهادات البروفيسور شازوف، الذي يواصل حديثه قائلاً:
»تبدأ القصة أيام شهر سبتمبر الملبّد بالغيوم عام 1978... اتصل بي »أليكسي كوسيجين« رئيس الوزراء السوفياتي آنذاك، وقال بينما جاء صوته مضطرباً عبر الهاتف:
- لقد وصلتني للتو برقية من الجزائر تخبرنا بأن الرئيس »هواري بومدين« قد استقلّ الطائرة صباح اليوم متجهاً إلى موسكو للعلاج.
توقف لحظةً كوسيجين وأضاف وفي نبرة صوته الدهشة:
- الغريب أن هذا الطلب جاء مفاجئاً، إذ لم تطلب الجزائر من قبل تنظيم رحلة علاجٍ لبومدين.
ثم سألني كوسيجين:
- ربما تعرف شيئاً عن هذا الموضوع...
أجبته: إنني مثله تماماً أسمع بالنبأ للمرة الأولى.
ثم يضيف شازوف قائلاً:
- أتذكر أن كوسيجين أضاف قائلاً في المكالمة الهاتفية ذاتها: يبدو أن شيئاً غير طبيعي حدث!
وأشار إلى أنه من غير المستبعد أن يكون بومدين مريضاً وأن المسؤولين في الجزائر يحاولون إخفاء طبيعة مرض زعيمهم كما يحدث في البلاد العربية عادة، وأن دبلوماسيين في الجزائر لم يتابعوا الموقف جيداً ليعرفوا ماذا حدث.
انتهت مكالمة كوسيجين بتكليف شازوف باستقبال بومدين لدى هبوطه في المطار ونقله للعلاج فوراً، واقترح أن يقيم بومدين في مستشفى شارع »ميننستورنسكي« في موسكو، حيث القليل من المرضى مما يمكن السوفيات من الحفاظ على سرية رحلة الرئيس الجزائري وإخفاء شخصيته
رد: القصة الكاملة لوفاة بومدين
تـــــــــــــــــــــــــــــــا بــــــــــــــــع
يضيف شازوف: لسوء حظ الأطباء الروس بدا وكأن الرئيس بومدين ذهب إلى الاتحاد السوفياتي في صحة طيبة أو على أسوإ تقدير مصاب بمرض ضعيف، وبعد شهرين عاد إلى بلاده في حالةٍ خطيرة تصحبه مجموعة من الأطباء السوفيات، غير أن الذين روّجوا لهذا التصور لم يسألوا أنفسهم لماذا اضطر بومدين لقطع آلاف الأميال بطائرة للعلاج في الاتحاد السوفياتي؟ وهل كانت تلك الرحلة المضنية لمجرد الاستشفاء من مرضٍ بسيط كالزكام مثلا؟ً... ألم يكن باستطاعة الرجل حينئذ أن يستريح في منزله بضعة أيام؟!
يواصل شازوف: بعد إجراء الفحوص الأولية لم يعد لدينا أي شك في أن الرئيس الجزائري يعاني من مرضٍ شديد، قد يكون ذا طبيعية فيروسية، وتمثلت مضاعفات المرض في التهاب وتسمم الكبد.
بدا للوهلة الأولى وكأن المرض يتراجع نتيجةً للعلاج، كما بدأت أمراض وعلامات التهاب الكبد في الاختفاء، ولكن قلقنا استمر لأن جسد الرئيس الجزائري لم يتخلص بعد من هزاله ودرجة حرارته تعاود تسجيل ارتفاعٍ خفيف، وكرات الدم البيضاء تتزايد هي الأخرى وإن كان ذلك ليس تزايداً شديد الارتفاع، كما لاحظنا تغيرات مختلطة باختلال جهاز المناعة، وظهر ذلك الاختلال بصورة واضحة على مادة الجلوبيولين الطرفية.
السوفيات ورهبة الموت
لنتوقف قليلاً هنا أمام ما قاله البروفيسور شازوف، حيث بدت حالة بومدين آخذة في التدهور بعد أن بدأ علاجه في موسكو، وقد أرجع الأطباء ذلك إلى اختلال في جهاز المناعة، وهذ الاختلال هو الذي يرجح اغتياله بالسم كما سنرى لاحقاً، لذا من الضروري أن نتساءل هنا: لماذا يريد الأطباء السوفيات التأكيد على أن بومدين كان في حالةٍ خطيرة حين وصل إلى العلاج لدرجة أن السلطات الجزائرية أبلغتهم حضوره دون انتظار الرد؟
يبدو أنهم إلى الآن يشعرون بالذنب تجاه بومدين حين عجزوا عن إنقاذه، مع أن الأمر يتجاوزهم، وأيضاً لشعورهم بعقدة نقصٍ أمام الطب الغربي، مع أن الأطباء الغربيين حضروا للجزائر ولم يستطيعوا فعل أي شيء.
الإحساس السابق نجده واضحاً في ما كتبه كبير أطباء الكريملن حول علاج بومدين بقوله:
»لقد شارك في التوصل إلى تشخيص حالة بومدين ووضع نظام العلاج لها أفضل الأطباء السوفيات، وجرت جميع المداولات والمشاورات في حضور الزملاء من الأطباء الجزائريين، كما كانت زوجة الرئيس الجزائري تتابع الموقف أولاً بأول، حيث وصلت معه على الطائرة ذاتها... وأتذكر كذلك أننا لجأنا إلى طريقةٍ حديثةٍ للعلاج تدعى »بلازما فورسيس« كسلاح لمواجهة تراكم المواد الضارة في الدم بعد أن تجادلنا وتشاورنا باستفاضة، ولكن شبح رحيل بومدين في أي لحظةٍ بسبب نزيف المخ أو احتشاء القلب أو تغيراتٍ خطيرة تصيب الرئتين كان ماثلاً أمامنا بقوة.
واضح من شهادة كبير أطباء الكريملن أن القيادة السوفياتية لم تكن تنظر إلى علاج بومدين من ناحيةٍ إنسانيةٍ فقط لجهة نجاحها أو فشلها، وإنما ربطتها بعلاقتها المتميزة مع الجزائر، لذلك فضلت أن يتم إكمال علاج بومدين في بلاده لدرجة جعلت شازوف يحذر قيادة بلاده من وفاة بومدين في موسكو، وقد أيده »أليكسي كوسيجين« بالرد السريع حين قال:
»من الأفضل الاستمرار بالعلاج في الجزائر، ويمكننا أن نبعث بأفضل الأطباء والعقاقير والأجهزة اللازمة إلى هناك، لأن رحيل بومدين وهو فوق أراضي الاتحاد السوفياتي من شأنه أن يحدث ردود فعل سلبية في الجزائر والعالم العربي، وقد يضيف المزيد إلى أوضاعٍ غايةً في التعقيد بين موسكو والدول العربية«.
شجاعة »بومدين« ورغبة »أنيسة«
واضح أن القيادة السوفياتية كانت في حيرةٍ من أمرها وتساءلت كيف لي أن أطلب من بومدين العودة إلى بلاده لإتمام العلاج، وما هو مستقبل العلاقة بيننا وبين الجزائر في حالة وفاته في أي لحظة، وأنقذها بومدين مما هي فيه وذلك حين تصرف وكأنه في كامل صحته، إذ قبل أن يبادر السوفيات إلى هذا الطلب سارع هو إليه، حيث يقول شازوف:
... لحسن الحظ كانت وجهة نظر الرئيس بومدين نفسه مطابقة لرأي الزعامة السوفياتية، فقد أدرك أن غيابه عن وطنه وتزايد الأقاويل حول مرضه العضال داخل الجزائر قد يؤدي لعواقب غير مأمونةٍ... كما أن زوجته أنيسة شجعت قراره بالعودة إلى الجزائر، واشترط بومدين علينا قبل العودة أن يصحبه فريق من الأخصائيين السوفيات، وأن يبقى الفريق في الجزائر لمواصلة العلاج وهو ما وافقنا عليه.
شهادة شازوف السابقة تطرح العديد من التساؤلات لعل أهمها:
- لماذا شجعت زوجته أنيسة قرار العودة؟ وهل باتت ومعها الدولة الجزائرية تشكان في العلاج الروسي؟
- وإذا كان الأمر كذلك فهل نسيت أنيسة أن بومدين هو الذي فضل العلاج في الاتحاد السوفياتي؟
- هل أن بومدين حين طالب بالعودة أحسّ بقرب أجله ففضل أن يموت في بلاده؟
- هل اشتراطه مرافقة الأطباء الروس وبقائهم يكشف عن قناعته بقدرتهم؟
بغض النظر عن الإجابات فإن الواضح أن الدولة الجزائرية لاحظت تدهور صحة الزعيم، فحاولت إنقاذه مهما كانت التكلفة، وهذا يتطلب اتساع الحركة وسرعتها أيضاً.
وتوضح لنا مقاومة بومدين للمرض اتخاذه للقرارات الصائبة حتى في لحظات الألم، فقد مهد لاتخاذ قرار العودة بإصراره، إبعاداً لدولته عن الحرج وإنقاذاً للاتحاد السوفياتي من الخوف الذي انتاب قادته، لذلك تأثر به الروس عند مغادرته لبلادهم، حتى أن شازوف يقول عن تلك اللحظات المؤلمة:
... لن أنسى لحظات وداع بومدين لدى إقلاع طائرته من الاتحاد السوفياتي، كان لتلك اللحظات تأثير خاص في نفسي... كنت على استعداد لعمل كل شيء وأي شيء لأجل هذا الرجل، الذي جمعتني به أواصر صداقة وتعاطف مع آلامه تمت بقوة أثناء العلاج، إلا أنني في الوقت نفسه كنت على وعيٍ بعجز الطب أمام حالته الخطيرة، وكان بومدين كذلك متعكر المزاج في تلك اللحظات... لحظات وداعه للاتحاد السوفياتي«.
المهم أن بومدين عاد إلى الجزائر في صحبة مجموعة من كبار أساتذة الطب السوفيات، وبعدها بأيامٍ قليلة وصلت من سفارة الاتحاد السوفياتي بالجزائر إلى موسكو أنباء مقلقة على الروح العدائية التي تحيط بالأطباء السوفيات قد تصل إلى حد تهديد حياتهم، الأمر الذي لم تؤكده أية وثائق جزائرية، كما أبلغ السوفيات بأن الوضع الصحي لبومدين ازداد حرجاً مع ظهور أعراض اختلال الدورة الدموية في المخ، التي بدأت عقب عودته إلى الجزائر، الأمر الذي دفع بالجزائر لاستدعاء الأطباء من كل مكان، وهنا دخل الطب الغربي في تنافسٍ واضح مع الطب السوفياتي.
للأمريكيين حضورٌ ونصيب
بقدوم الأطباء من كل حدبٍ وصوب أصبح الموقف محرجا وصعبا للأطباء السوفيات، خصوصاً بعد أن حاول ممثلو الطب الغربي وبالذات الفرنسيون أن يسفّهوا التشخيص الذي توصل إليه الأطباء السوفيات.
وكان للأطباء الأمريكيين حضورٌ واسعٌ، ففي 21 نوفمبر وصل إلى الجزائر خمسة أطباء عسكريين أمريكيين تابعين للحلف الأطلسي، ويقيمون في ألمانيا الغربية ومعهم أجهزة إنعاشٍ جديدة.
في اليوم التالي حمل أربعة اختصاصيين من مستشفى »ماسومتوميتش« في بوسطن أجهزة أخرى للإنعاش معهم إلى الجزائر، وأتبع هؤلاء بعد ذلك بعشرة اختصاصيين أمريكيين آخرين.
بعد أيامٍ قليلة لحق بهؤلاء اختصاصيان شهيران من تونس وآخر من لبنان، ثم لحق بهم أربعة أطباء إنعاش بريطانيين وأربعة اختصاصيين يوغوسلاف وسويديان وخمسة يابانيين وألمانيين وثمانية اختصاصيين صينيين.
وأرسلت ألمانيا الغربية جهاز كاميرا تعمل بأشعة جاما فضلاً عن سكانير، وذهبت الولايات المتحدة الأمريكية إلى أبعد حد عندما أرسلت طائرة شحن عسكرية عملاقة تحمل مختبراً نقالاً مزوداً بجهاز سكانير للمخ شديد التطور.
ولم يكن هذا العدد من الأطباء مفيداً لبومدين لطبيعة الصراع الذي وقعت بين الأطباء الغربيين والأطباء الروس، حتى أن »سورا«، الطبيب الروسي الشهير الذي كان ضمن الفريق الطبي ذهب إلى القول:
» "كانت المناقشات في الكونسلتو حامية الوطيس، لكن أحداً من الأطباء لم يقترح أية إضافة جديدة لنظام العلاج الذي كنا قد وضعناه في موسكو«.
بعد مداولات ومتابعة ومراقبة انتهى ذلك العدد الهائل من الأطباء الذي كان ضمنه رجل متقدم في السن من دولة السويد هو الطبيب الشهير »والدنستروم«، الذي سمي المرض باسمه في حالاتٍ سابقة، ولم يكن معه إلا مرافق واحد وخبرته السابقة، الذي استطاع اكتشاف المرض، وكانت النتيجة معروفة مسبقا حين يدخل المريض مرحلته الأخيرة، وكان بومدين قد دخلها بالفعل.
لقد وضع تفسير الطبيب السويدي حداً لجميع التفسيرات والتأويلات التي تضاربت بين الفرق الطبية، فكيف تم له ذلك؟ وأين كان بوتفليقة في هذا الوقت؟ وما قصة رسالة ديستان لبومدين ورسالة بومدين للملك الحسن الثاني؟... نتابع ذلك في الحلقة المقبلة.
في الحلقة المقبلة:
اغتيال بومدين... الشهادات والوقائع (4-3)
يوم أن كان »بوتفليقة« وزيراً و»ديستان« رئيساً و»الحسن الثاني« ملكاً
تصريحات بوتفليقة في زمن المرض.
بومدين وديستان: الرسالة واللغز.
رسالة بومدين الأخيرة للحسن الثاني.
يضيف شازوف: لسوء حظ الأطباء الروس بدا وكأن الرئيس بومدين ذهب إلى الاتحاد السوفياتي في صحة طيبة أو على أسوإ تقدير مصاب بمرض ضعيف، وبعد شهرين عاد إلى بلاده في حالةٍ خطيرة تصحبه مجموعة من الأطباء السوفيات، غير أن الذين روّجوا لهذا التصور لم يسألوا أنفسهم لماذا اضطر بومدين لقطع آلاف الأميال بطائرة للعلاج في الاتحاد السوفياتي؟ وهل كانت تلك الرحلة المضنية لمجرد الاستشفاء من مرضٍ بسيط كالزكام مثلا؟ً... ألم يكن باستطاعة الرجل حينئذ أن يستريح في منزله بضعة أيام؟!
يواصل شازوف: بعد إجراء الفحوص الأولية لم يعد لدينا أي شك في أن الرئيس الجزائري يعاني من مرضٍ شديد، قد يكون ذا طبيعية فيروسية، وتمثلت مضاعفات المرض في التهاب وتسمم الكبد.
بدا للوهلة الأولى وكأن المرض يتراجع نتيجةً للعلاج، كما بدأت أمراض وعلامات التهاب الكبد في الاختفاء، ولكن قلقنا استمر لأن جسد الرئيس الجزائري لم يتخلص بعد من هزاله ودرجة حرارته تعاود تسجيل ارتفاعٍ خفيف، وكرات الدم البيضاء تتزايد هي الأخرى وإن كان ذلك ليس تزايداً شديد الارتفاع، كما لاحظنا تغيرات مختلطة باختلال جهاز المناعة، وظهر ذلك الاختلال بصورة واضحة على مادة الجلوبيولين الطرفية.
السوفيات ورهبة الموت
لنتوقف قليلاً هنا أمام ما قاله البروفيسور شازوف، حيث بدت حالة بومدين آخذة في التدهور بعد أن بدأ علاجه في موسكو، وقد أرجع الأطباء ذلك إلى اختلال في جهاز المناعة، وهذ الاختلال هو الذي يرجح اغتياله بالسم كما سنرى لاحقاً، لذا من الضروري أن نتساءل هنا: لماذا يريد الأطباء السوفيات التأكيد على أن بومدين كان في حالةٍ خطيرة حين وصل إلى العلاج لدرجة أن السلطات الجزائرية أبلغتهم حضوره دون انتظار الرد؟
يبدو أنهم إلى الآن يشعرون بالذنب تجاه بومدين حين عجزوا عن إنقاذه، مع أن الأمر يتجاوزهم، وأيضاً لشعورهم بعقدة نقصٍ أمام الطب الغربي، مع أن الأطباء الغربيين حضروا للجزائر ولم يستطيعوا فعل أي شيء.
الإحساس السابق نجده واضحاً في ما كتبه كبير أطباء الكريملن حول علاج بومدين بقوله:
»لقد شارك في التوصل إلى تشخيص حالة بومدين ووضع نظام العلاج لها أفضل الأطباء السوفيات، وجرت جميع المداولات والمشاورات في حضور الزملاء من الأطباء الجزائريين، كما كانت زوجة الرئيس الجزائري تتابع الموقف أولاً بأول، حيث وصلت معه على الطائرة ذاتها... وأتذكر كذلك أننا لجأنا إلى طريقةٍ حديثةٍ للعلاج تدعى »بلازما فورسيس« كسلاح لمواجهة تراكم المواد الضارة في الدم بعد أن تجادلنا وتشاورنا باستفاضة، ولكن شبح رحيل بومدين في أي لحظةٍ بسبب نزيف المخ أو احتشاء القلب أو تغيراتٍ خطيرة تصيب الرئتين كان ماثلاً أمامنا بقوة.
واضح من شهادة كبير أطباء الكريملن أن القيادة السوفياتية لم تكن تنظر إلى علاج بومدين من ناحيةٍ إنسانيةٍ فقط لجهة نجاحها أو فشلها، وإنما ربطتها بعلاقتها المتميزة مع الجزائر، لذلك فضلت أن يتم إكمال علاج بومدين في بلاده لدرجة جعلت شازوف يحذر قيادة بلاده من وفاة بومدين في موسكو، وقد أيده »أليكسي كوسيجين« بالرد السريع حين قال:
»من الأفضل الاستمرار بالعلاج في الجزائر، ويمكننا أن نبعث بأفضل الأطباء والعقاقير والأجهزة اللازمة إلى هناك، لأن رحيل بومدين وهو فوق أراضي الاتحاد السوفياتي من شأنه أن يحدث ردود فعل سلبية في الجزائر والعالم العربي، وقد يضيف المزيد إلى أوضاعٍ غايةً في التعقيد بين موسكو والدول العربية«.
شجاعة »بومدين« ورغبة »أنيسة«
واضح أن القيادة السوفياتية كانت في حيرةٍ من أمرها وتساءلت كيف لي أن أطلب من بومدين العودة إلى بلاده لإتمام العلاج، وما هو مستقبل العلاقة بيننا وبين الجزائر في حالة وفاته في أي لحظة، وأنقذها بومدين مما هي فيه وذلك حين تصرف وكأنه في كامل صحته، إذ قبل أن يبادر السوفيات إلى هذا الطلب سارع هو إليه، حيث يقول شازوف:
... لحسن الحظ كانت وجهة نظر الرئيس بومدين نفسه مطابقة لرأي الزعامة السوفياتية، فقد أدرك أن غيابه عن وطنه وتزايد الأقاويل حول مرضه العضال داخل الجزائر قد يؤدي لعواقب غير مأمونةٍ... كما أن زوجته أنيسة شجعت قراره بالعودة إلى الجزائر، واشترط بومدين علينا قبل العودة أن يصحبه فريق من الأخصائيين السوفيات، وأن يبقى الفريق في الجزائر لمواصلة العلاج وهو ما وافقنا عليه.
شهادة شازوف السابقة تطرح العديد من التساؤلات لعل أهمها:
- لماذا شجعت زوجته أنيسة قرار العودة؟ وهل باتت ومعها الدولة الجزائرية تشكان في العلاج الروسي؟
- وإذا كان الأمر كذلك فهل نسيت أنيسة أن بومدين هو الذي فضل العلاج في الاتحاد السوفياتي؟
- هل أن بومدين حين طالب بالعودة أحسّ بقرب أجله ففضل أن يموت في بلاده؟
- هل اشتراطه مرافقة الأطباء الروس وبقائهم يكشف عن قناعته بقدرتهم؟
بغض النظر عن الإجابات فإن الواضح أن الدولة الجزائرية لاحظت تدهور صحة الزعيم، فحاولت إنقاذه مهما كانت التكلفة، وهذا يتطلب اتساع الحركة وسرعتها أيضاً.
وتوضح لنا مقاومة بومدين للمرض اتخاذه للقرارات الصائبة حتى في لحظات الألم، فقد مهد لاتخاذ قرار العودة بإصراره، إبعاداً لدولته عن الحرج وإنقاذاً للاتحاد السوفياتي من الخوف الذي انتاب قادته، لذلك تأثر به الروس عند مغادرته لبلادهم، حتى أن شازوف يقول عن تلك اللحظات المؤلمة:
... لن أنسى لحظات وداع بومدين لدى إقلاع طائرته من الاتحاد السوفياتي، كان لتلك اللحظات تأثير خاص في نفسي... كنت على استعداد لعمل كل شيء وأي شيء لأجل هذا الرجل، الذي جمعتني به أواصر صداقة وتعاطف مع آلامه تمت بقوة أثناء العلاج، إلا أنني في الوقت نفسه كنت على وعيٍ بعجز الطب أمام حالته الخطيرة، وكان بومدين كذلك متعكر المزاج في تلك اللحظات... لحظات وداعه للاتحاد السوفياتي«.
المهم أن بومدين عاد إلى الجزائر في صحبة مجموعة من كبار أساتذة الطب السوفيات، وبعدها بأيامٍ قليلة وصلت من سفارة الاتحاد السوفياتي بالجزائر إلى موسكو أنباء مقلقة على الروح العدائية التي تحيط بالأطباء السوفيات قد تصل إلى حد تهديد حياتهم، الأمر الذي لم تؤكده أية وثائق جزائرية، كما أبلغ السوفيات بأن الوضع الصحي لبومدين ازداد حرجاً مع ظهور أعراض اختلال الدورة الدموية في المخ، التي بدأت عقب عودته إلى الجزائر، الأمر الذي دفع بالجزائر لاستدعاء الأطباء من كل مكان، وهنا دخل الطب الغربي في تنافسٍ واضح مع الطب السوفياتي.
للأمريكيين حضورٌ ونصيب
بقدوم الأطباء من كل حدبٍ وصوب أصبح الموقف محرجا وصعبا للأطباء السوفيات، خصوصاً بعد أن حاول ممثلو الطب الغربي وبالذات الفرنسيون أن يسفّهوا التشخيص الذي توصل إليه الأطباء السوفيات.
وكان للأطباء الأمريكيين حضورٌ واسعٌ، ففي 21 نوفمبر وصل إلى الجزائر خمسة أطباء عسكريين أمريكيين تابعين للحلف الأطلسي، ويقيمون في ألمانيا الغربية ومعهم أجهزة إنعاشٍ جديدة.
في اليوم التالي حمل أربعة اختصاصيين من مستشفى »ماسومتوميتش« في بوسطن أجهزة أخرى للإنعاش معهم إلى الجزائر، وأتبع هؤلاء بعد ذلك بعشرة اختصاصيين أمريكيين آخرين.
بعد أيامٍ قليلة لحق بهؤلاء اختصاصيان شهيران من تونس وآخر من لبنان، ثم لحق بهم أربعة أطباء إنعاش بريطانيين وأربعة اختصاصيين يوغوسلاف وسويديان وخمسة يابانيين وألمانيين وثمانية اختصاصيين صينيين.
وأرسلت ألمانيا الغربية جهاز كاميرا تعمل بأشعة جاما فضلاً عن سكانير، وذهبت الولايات المتحدة الأمريكية إلى أبعد حد عندما أرسلت طائرة شحن عسكرية عملاقة تحمل مختبراً نقالاً مزوداً بجهاز سكانير للمخ شديد التطور.
ولم يكن هذا العدد من الأطباء مفيداً لبومدين لطبيعة الصراع الذي وقعت بين الأطباء الغربيين والأطباء الروس، حتى أن »سورا«، الطبيب الروسي الشهير الذي كان ضمن الفريق الطبي ذهب إلى القول:
» "كانت المناقشات في الكونسلتو حامية الوطيس، لكن أحداً من الأطباء لم يقترح أية إضافة جديدة لنظام العلاج الذي كنا قد وضعناه في موسكو«.
بعد مداولات ومتابعة ومراقبة انتهى ذلك العدد الهائل من الأطباء الذي كان ضمنه رجل متقدم في السن من دولة السويد هو الطبيب الشهير »والدنستروم«، الذي سمي المرض باسمه في حالاتٍ سابقة، ولم يكن معه إلا مرافق واحد وخبرته السابقة، الذي استطاع اكتشاف المرض، وكانت النتيجة معروفة مسبقا حين يدخل المريض مرحلته الأخيرة، وكان بومدين قد دخلها بالفعل.
لقد وضع تفسير الطبيب السويدي حداً لجميع التفسيرات والتأويلات التي تضاربت بين الفرق الطبية، فكيف تم له ذلك؟ وأين كان بوتفليقة في هذا الوقت؟ وما قصة رسالة ديستان لبومدين ورسالة بومدين للملك الحسن الثاني؟... نتابع ذلك في الحلقة المقبلة.
في الحلقة المقبلة:
اغتيال بومدين... الشهادات والوقائع (4-3)
يوم أن كان »بوتفليقة« وزيراً و»ديستان« رئيساً و»الحسن الثاني« ملكاً
تصريحات بوتفليقة في زمن المرض.
بومدين وديستان: الرسالة واللغز.
رسالة بومدين الأخيرة للحسن الثاني.
القصة الكاملة لوفاة بومدين (الحلقة الثالث)
القصة الكاملة لوفاة بومدين (الحلقة الثالث) تــــــــــــــــــــــــــا بـــــــع
يوم أن كان بوتفليقة وزيراً و«ديستان» رئيساً و«الحسن الثاني» ملكاً
2008.07.23
خالد عمر بن ققه
انتهينا في الحلقة السابقة إلى التساؤل حول التفسير الذي قدمه الطبيب السويدي و«الدنستروم» بناءً على تشخيصه الذي جاء بعد ساعاتٍ قليلة من قراءته حصيلة التقارير ومشاهدة الصور وفحص المريض بيديه، وبناءً عليه تقرر تقليص ساعات غسل الكلى يومياً لبضع ساعات فقط، وظهر كأن أيام العلاج في موسكو لم تنفع الرئيس بومدين في شيء.
* تصريحات بوتفليقة في زمن المرض.
* بومدين وديستان: الرسالة واللغز.
* رسالة بومدين الأخيرة للحسن الثاني.
في 23 نوفمبر1978 بدا أن بومدين خرج من حالة الغيبوبة، لكنه بعد خمسة أيام غاب عن الوعي ثانية، فقرر البروفيسور السويدي أن بومدين قد دخل المرحلة الأخيرة من مرض »والدنستروم« الذي كان يحمل اسمه، وأن الموت قادم لا محالة رغم أن المريض يمكنه أن يعيش بعض الوقت إذا نجح في تجاوز الأزمة الجديدة، وأنه لا جدوى من إجراء عملية جراحية لتفتيت الانسداد الذي ضرب أحد أوردة الدماغ لأن هذه العملية ستؤدي للوفاة.
... على طريق «فرانكو» و«تيتو»
وفي أول ديسمبر 1978 أظهر الفحص بجهاز السكانر وجود حالة تخثرٍ ثانية في دم المخ، ودخل بومدين في حالة غيبوبةٍ عميقة بينما كان 62 اختصاصياً من أنحاء العالم يراقبون جسمه المرتخي، وقلبه الذي كان مايزال يعمل، بينما لم تكن الأعضاء تعمل إلا بواسطة الأجهزة الحديثة المستخدمة، وبدأت كهرباء المخ تضعف، وواصل الأطباء عملهم رغم قناعتهم بعدم جدوى ما يفعلون.
وفي 18 ديسمبر 1978 تفاقمت حالة بومدين على إثر نزيفٍ داخليّ مفاجيء، وبعد ستة أيام اختفت كل مظاهر الحياة عن الرئيس بومدين، بما في ذلك كهرباء المخ التي أخذت شكل خط مستقيم متواصل في الرسم البياني للجهاز الذي يقيس تلك الحركة.
وحسب المصادر الطبية ـ الغربية على وجه الخصوص ـ أن بومدين لم يستعد وعيه منذ أول ديسمبر وبقي على تلك الحالة 27 يوماً، ولم يكن جسمه يعمل فيها إلا بفضل الأجهزة المتطورة، فيما كانت البيانات الصادرة عن السلطات الرسمية تقول إن حالة الرئيس »مستقرة«.
ويرى الكتاب الغربيون أن الجزائر لم تأتِ بسابقةٍ على صعيد إطالة فترة حياة الرئيس بومدين، فإسبانيا فعلت نفس الشيء مع الجنرال »فرانكو« واحتضاره الطويل سنة 1975 ويوغسلافيا أبقت الماريشال »تيتو« في حالة الإنعاش لأسابيع عديدة، واستخدم السوفيات نفس الأسلوب مع »أندريوف« و»شيونينكو«، كما جاء في كتاب »هؤلاء المرضى الذين يحكموننا«.
ومؤامرة »ملاّح«
نتوقف هنا لنبحث الشق السياسي والعلاقات الدولية أثناء مرض بومدين، ثم نعود في الحلقة الأخيرة إلى كيفية تعرضه للسم والأطراف المستفيدة من ذلك،
أول ما يصادفنا الحديث عن عبد العزيز بوتفليقة ـ وزير الخارجية في ذلك العهد ـ في مجلة »روز اليوسف« المصرية العدد 3329 ، وذلك حين قرر الوفد الجزائري تخفيض مدة زيارته إلى سوريا بعد أن اشتد الألم على الرئيس بومدين في دمشق، فقد استدعى بوتفليقة فجأة وقال له:« لنعد الليلة إلى الجزائر... أريد أن أموت في فراشي».
وتذكر المصادر أن بومدين جلس في الطائرة أثناء رحلة العودة، وقد بدا عليه الإجهاد، وغارت عيناه، وعلت مسحة من الانقباض على وجهه، وضاعت منه ملامح الشباب، ولم تنفع المحاولات المستمرة التي بذلها فريق الوفد خصوصاً عبد العزيز بوتفليقة أثناء الرحلة من سوريا إلى الجزائر، وفي نهايتها أشار الرئيس إلى مساعده فأسرع إليه بوتفليقة قائلاً: إن شاء الله لا بأس يا سي بومدين.:
ذلك هو الوصف الأول الذي بدت فيه مشاركة الوزير بوتفليقة رئيسه المريض، أتبعت بأخرى جاءت في نوفمبر 1978 ، كشف فيها الوزير بوتفليقة عن الوضع السياسي من الداخل، حيث صرح لصحيفة »الرأي العام« الكويتية أنه تم إلقاء القبض على الرائد »عمار بن ملاح« الذي دبّر محاولة اغتيال الرئيس هواري بومدين، وعن ذلك التصريح نقلت مختلف وكالات الأنباء والصحف ومنها الصحف المصرية التي نقلنا عنها الخبر السابق، نتيجة لذلك يمكن لنا طرح عدة استفهامات أهمها: ما الرسالة التي تقصد السلطات الجزائرية تمريرها للرأي العام الوطني والعالمي، وهل لمحاولة الاغتيال تلك علاقة بما أوردته الوكالات في بداية مرض بومدين؟ ولماذا تم إخفاء المرض لمدة تجاوزت الأربعين يوماً؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي نجبر على العودة إليها كلما تأملنا مأساة بومدين في أيام مرضه وتحطيم إنجازاته بعدها.
إن عدم وجود تفصيلات بخصوص نشاط القيادات الجزائرية في ذلك الوقت وخصوصاً وزير الخارجية عبد العزيز بوتفليقة باعتباره من المقربين للرئيس بومدين، يدفعنا اليوم إلى المطالبة بإجاباتٍ مقنعة عن الأسئلة السابقة، والحسم بشكلٍ نهائي في قضية لغز وفاة الرئيس إذ لا يعقل أن تظل شهادات البعيدين عن صناعة القرار في الجزائر محركة للأفعال وردودها على الساحة الوطنية.
الرسالة اللغز
من ناحيةٍ أخرى علينا العودة إلى ما جاء في وكالات الأنباء من حديثٍ عن رسالة بعث بها الرئيس بومدين إلى الرئيس الفرنسي »فاليري جيسكار دستان« وهو يعبر الأجواء الفرنسية، وقد أثارت الرسالة وقتها استغراباً ودهشةً لدى المراقبين، ويعود ذلك لكون فرنسا تتابع بحذرٍ تنامي دور الجزائر، حيث كان الرئيس الفرنسي ديستان يرى أمامه مستعمرة الأمس قد أصبحت دولةً مهابة الجانب، وفي ذلك الوقت كان البترول هو أقوى ورقة في يد العرب، لذلك دعا ديستان إلى عقد مؤتمر دولي للطاقة، لكن جزائر بومدين عارضت الفكرة واقترحت أن يكون الموضوع بنداً في مناقشات ندوة تعقدها الأمم المتحدة وتشمل النظام الاقتصادي العالمي.
وحسب الصحفية المصرية »فايزة سعد«، فإن الجزائر كانت في ذلك الوقت ترفع درجة التحدي إلى أعلى مستوى، إذ لم تكن كلمة الاقتصاد العالمي التي طرحتها قد طُرِحَت من قبل، وكان معنى الكلمة بوضوح أنها تتمرد على الكبار، وفعلاً أصيب ديستان بخيبة أمل من موقف الجزائر.
إذاً كيف لبومدين أن يبعث برسالة إلى ديستان وهو مريض، علماً بأنه لم يفعل ذلك من قبل منذ مجيئه للسلطة ولو بالإشارة، هنا تُطرح أسئلة من مثل: من بعث بها؟ ومن صاحب الفكرة أساساً؟ وما أهدافها في زمانها وفي المستقبل آنذاك، الذي أصبح ماضياً الآن؟
للعلم، لم أتمكن من الاطلاع على نص الرسالة لأسباب كثيرة، ليس هنا مجال ذكرها، ولكن الذي أعرفه من قراءاتي أن الأوساط الفرنسية المسؤولة آنذاك لم تدلِ بأي تعليق على تلك الرسالة المشبوهة، غير أن المراقبين السياسيين أبدوا عدة ملاحظات حول الرسالة آنذاك، أهمها:
- تشكل الرسالة لفتة دبلوماسية من جانب الرئيس بومدين بعد احتجابٍ دام عدة أسابيع في الاتحاد السوفياتي، ويمكن أن تفسر على أن الزعيم الجزائري انتهز الفرصة غير العادية للطيران فوق الأراضي الفرنسية للإعراب عن رغبته في التقرب لفرنسا.
- وصفت لهجة البرقية بأنها حارة، خاصةً عندما أكد استعداد الجزائر الكامل لتنقية أجواء العلاقات الفرنسية ـ الجزائرية، ورغبة مسؤوليها في إجراء حوار معها، وبدء صفحة جديدة من التاريخ مثل ماضي زعماء حوض غربي بحر المتوسط.
- أحدثت الفقرة الخاصة بقضية الصحراء الغربية عدة تساؤلات لدى المراقبين.
- من جهتها، علقت الصحف الفرنسية على تلك الرسالة المزعومة بقولها: أنها تتسم، ولأول مرةٍ، بلهجةٍ معتدلة وتدعو لصفحةٍ جديدة من التعاون مع فرنسا.
- وبخصوص الرسالة دائماً فقد قالت صحيفة »لوماتان« الفرنسية إن الخبراء الفرنسيين عاكفون على دراسة نص هذه الرسالة التي صيغت بأسلوبٍ جديد لم يسبق للجزائر أن استخدمته في الدعوة لتجديد التعاون مع فرنسا.
- وأضافت لو ماتان: أن الخبراء يدرسون كل كلمة في الرسالة »الوثيقة« التي يتفق الجميع على أن كاتبها ليس هواري بومدين بناءً على ذلك يتساءل البعض، كما تقول الصحيفة، عما إذا كان ذلك دليلاً على أن هواري بومدين الذي ألمّ به المرض لم يعد ممسكاً بزمام المبادرة السياسية، كما جاء في جريدة الأهرام المصرية عدد 16 نوفمبر 1978.
رسالة الزعيم للملك
بالمقابل، فإن هناك رسالة بعثها بومدين قبل وفاته إلى الملك الحسن الثاني وهي آخر رسالة بعث بها رداً على رسالة الملك، ننقلها بنصها الحرفي كما وردت في مجلة »الصياد« اللبنانية التي نشرتها بتاريخ 15/12/1978 ، علماً بأنها أرسلت ـ حسب المجلة السابقة ـ بتاريخ 21 أكتوبر 1978، وهي رسالة مثيرة للدهشة لجهة ما جاء فيها، ومع أنها طويلة وسبق أن نشرتها ضمن فصلٍ في كتابي »اغتيال بومدين: الوهم والحقيقة«، إلا أنني أعيد نشرها هنا لتعميم الفائدة، وللتذكير بعلاقاتنا مع المغرب في عهد الزعيمين: الرئيس بومدين والملك الحسن الثاني، ونصها كما يلي:
»... صاحب الجلالة:
تسمحون لي يقيناً بأن أرثي هنا للدبوماسية العلنية التي تبدو وكأنها اليوم قد طغت على الدبلوماسية التقليدية، وها أنا ذا أجد نفسي مضطراً للجوء إليها بدوري، ولقد كنت أود كذلك تماماً كما تمنيتموه أن أستأنف الاتصال بكم، وما من شكّ في أن الحوار المباشر كان من الممكن أن يكون أفضل، ولكن هل يمكن تصور مثل هذا الحوار بعد المواقف التي اتخذها كل منّا مؤخراً بشأن القضية الفلسطينية وامتداداتها على الشرق الأوسط والأمة العربية؟
ومع ذلك فباستطاعتي أن أؤكد لكم منذ الآن أن الجزائر لن تتأخر أمام أي مجهود لتقديم مساهمتها المتواضعة في البحث عن سلام عادل بين المتحاربين في النزاع الدائر حاليا بالصحراء الغربية.
معاهدة »إيفران«
ومرةً أخرى ألاحظ، للأسف، من خلال رسالتكم أن التأكيدات تتسم بالقطيعة وأن الاتهامات الموجهة للجزائر أخطر منها، وكنت أشعر بوقع المفاجأة لولا أثر التعود ولولا الحصانة التي يوفرها هذا التعود، على أني أود أن لا أسمح لنفسي بالاعتقاد في كون الانتهاكات المتكررة المزعومة للحدود المغربية من قبل الجيش الوطني الشعبي ليس لها من غاية سوى تبرير عدوان مبيّت على بلدي.
ومهما يكن فإن مسعىً كهذا لن يكون صادراً إلا عن تصميمٍ واضحٍ على تضليل الرأي العام المغربي والأفريقي والدولي عن طبيعة الصراع الذي يحزن منطقتنا، ومع ذلك فقد استطاعت جلالتكم وأنا بالذات أن نرتفع بسياسة بلدينا طيلة سنوات عشر إلى مستوى التطلعات الطبيعية لشعبينا، اللذين تربطهما ـ كما تعلمون ـ روابط أقوى من التطلبات الحتمية التي يقتضيها مجرى الحوار وفي تلك الفترة عرفت منطقتنا عهدا من الازدهار، كما استطعنا رغم المحن والشدائد المحلية والعربية أن نعمل معاً يداً في يد وأن نسهم مساهمة حقيقة في تحرير شعوب قارتنا والعالم العربي وفي ترقية العالم الثالث على المسرح الدولي.
ولقد كانت مثل هذه السياسة تستمد إلهامها الأول من متطلبات الأخوة وحسن الجوار والتعاون التي تكرسها معاهدة »إيفران«، تلك المعاهدة التي نود أن نؤكد هنا تمسكنا بها، وهذه المتطلبات الثلاثة تركز أساساً على السلام، الذي ما من شك أنه يشكل في نظر جلالتكم ونظرنا جزءاً لا يتجزأ من عدالة الشعوب وحريتها.
كبوات الطريق وعثرات التاريخ
ثم جاءت اتفاقية 1972 التي أشهدت أفريقيا والعالم على التوقيع عليها لتساعدنا بالذات على التسامي بصورة نهائية على ما تواضعنا باتفاق مشترك على تسميته حيناً »بكبوات الطريق« وأحياناً أخرى بـ»عثرات التاريخ«، وحتى نؤكد إيماننا نحن بالتصديق على اتفاقات الرباط بشقيها المتمثلين في ترسيم التعاون ورسم الحدود بين الجزائر والمغرب.
ولا نزاع في أن صفحة من هذا التاريخ قد كتبت بهذا الاتفاق، مكرسين بذلك حرمة الحدود الموروثة لدى استرجاع استقلالنا، ومجنّبين شعبينا سواء لهذا الجيل أو ما يعقبه من أجيال شر ما يمكن أن يحدث من حالات سوء التفاهم أو التوترات، بل والمآسي الممكن حدوثها على الدوام والتي لا يمكن أن نقدر عواقبها الوخيمة، فمن وراء المودة الصادقة التي صنعتها رفقة في الكفاح وأخوة في السلاح كانت العلاقات القائمة بين شعبينا والروابط الشخصية مع جلالتكم، تزيدها قوة ومتانة تلك الثقة المتبادلة كذلك، والصدق الذي لا تشوبه شائبة والصراحة التي لا تخالطها مجاملة، بل وكل شيءٍ يستبعد إلا الالتباس والرياء والمداهنة.
إن مسعانا رغم كل ما قيل وكتب لا يتسم بولاء مطلق روحا ونصا بمعاهدة »إيفران« واتفاقيات سنة 1972 ، وفي الوقت ذاته لمبدإ تقرير الشعب الصحراوي لمصيره، ذلك المبدأ الذي ما برحت الجزائر بالتشاور مع المغرب وموريتانيا، تدافع عنه سواء على صعيد الهيئات الإقليمية أم في المحافل الدولية، وهذه السياسة المتصلة بعبقرية شعبنا وتاريخه لا يمكن أن نتنكر لها مهما كان الثمن.
وحيث إن الأمر يتعلق بالتزامات رئيس دولة تجاه شعبه وبلده، فإن جلالتكم على علم بأن أحداثا ذات خطورة قصوى قد سبق أن شهدت بهدوئنا وتسامحنا في كل الظروف، وبعزيمتنا على ألا نألوا جهدا في سبيل تفادي ما لا تحمد عقباه، وتجنيب شعبينا وتاريخنا وأسرتنا الروحية ويلات فتنة مشحونة ـ لا محالة ـ بمخاطر وخيمة العواقب، ولقد حان الوقت لنكرر القول على مرأى ومسمع من العالم أنه ليس ثمة أي نزاع قائم بين الجزائر والمغرب، ومن واجب شعبينا ومن واجب العالم أن يعلموا ذلك.
سياسة المصالح والمبادئ
صحيح أنه ليس من السهل الميسور دائماً الاختيار بين سياسة قائمة على المصالح وسياسة قائمة على المبادئ، ولقد اختارت الجزائر من جهتها، وغالباً ما كان الشعب الجزائري لولاها أن يكون على ما هو عليه، وما يجب أن يكون عليه، لقد كان التزامنا إزاء تصفية الاستعمار التزاما واحداً في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، ولا ننوي تغييره أبداً.
والذي وقع هو أنكم تتكلمون اليوم عن حوادث وقعت داخل حدودكم المرسومة سنة 1972 والتي اعترفنا بها، واعترفت بها أفريقيا والمجموعة الدولية، وإني لأؤكد لجلالتكم وأنا على بصيرة من الأمر باسم الروابط التي لا تنفصم عراها والتي ستقوم دائما بين شعبينا أنه لم يتخطَ أي جندي جزائري أبدا حدودكم الوطنية وبالذات تلك الحدود التي رسمناها معاً سنة 1972.
وقد سبق لي قبل بضعة أشهر فقط أن صرحت رسميا وعلانية أمام مجلس الشعب الوطني أن القوات الجزائرية لن تتدخل بأي حال من الأحوال إلى ما وراء حدودنا، وأنها وهي الحارسة اليقظة لسيادتنا الوطنية ولوحدة ترابنا ستحرص على صد كل هجوم يشن على بلدنا ومايزال خط سيرنا هذا دون تغيير.
ويبقى بطبيعة الحال نزاع الصحراء الغربية وامتدادات كفاح الشعب الصحراوي الذي ما برحنا نحن وغالبية المجموعة الدولية نؤمن بشرعيته، والذي ليست المساندة له سرا غامضا ولا سرا من أسرار الدولة، فثمة مشكلة سياسية لا يمكن أن تحل في نظرنا إلا بالطرق السياسية.
وإذا كنتم تدينون مثلنا إلحاق الأراضي بالقوة، وترفضون سياسة الأمر الواقع وتؤمنون بحق الشعوب كبيرها وصغيرها في الوجود، فلا يمكن إلا أن نكون في صفٍ واحد للسير بمنطلقنا ـ إذا ما كنت تلك إرادة الآخرين ـ وإرادة شعبينا الشقيقين على الأقل، في الطريق الوحيد الجدير بهما، طريق الوحدة ضمن احترام الاختلافات والمؤسسات والاختيارات، ومن المؤكد أن مهمة كهذه ليست مهمة ميسورة لكن هل هي فوق المجهود الصادق والمتضافر الذي يبذله رجال هم على رأس الجيل الذي صنع الاستقلال الوطني سواء في الجزائر أم في المغرب؟
أما أنا فبودي ألا أكف عن الإيمان بحكمتكم وأؤكد لكم مرة أخرى أمام الله وأمام التاريخ صدق إيماني الراسخ في بناء مغرب سيتم حتما عن طريق الحوار واحتكاك الافكار، لا عن طريق الاتهامات وقرع السلاح.
وأرجو من جلالتكم قبول فائق الاحترام والتقدير.
أخوكم: هواري بومدين«
الأمر لا ينتهي هنا، وسنتابع تفصيلات العلاقات الجزائرية المغربية من خلال رؤية الملك الحسن الثاني في الحلقة المقبلة.
في الحلقة المقبلة:
ذاكرة »الحسن الثاني« وشهادة »طلاس«... وذكريات كاتب
* أخبار الاغتيال بالسم بين دمشق والقاهرة والجزائر
* دور »عبدالله ركيبي« في البحث عن الحقيقة
* استنفار في بغداد وترحيب في الكويت
يوم أن كان بوتفليقة وزيراً و«ديستان» رئيساً و«الحسن الثاني» ملكاً
2008.07.23
خالد عمر بن ققه
انتهينا في الحلقة السابقة إلى التساؤل حول التفسير الذي قدمه الطبيب السويدي و«الدنستروم» بناءً على تشخيصه الذي جاء بعد ساعاتٍ قليلة من قراءته حصيلة التقارير ومشاهدة الصور وفحص المريض بيديه، وبناءً عليه تقرر تقليص ساعات غسل الكلى يومياً لبضع ساعات فقط، وظهر كأن أيام العلاج في موسكو لم تنفع الرئيس بومدين في شيء.
* تصريحات بوتفليقة في زمن المرض.
* بومدين وديستان: الرسالة واللغز.
* رسالة بومدين الأخيرة للحسن الثاني.
في 23 نوفمبر1978 بدا أن بومدين خرج من حالة الغيبوبة، لكنه بعد خمسة أيام غاب عن الوعي ثانية، فقرر البروفيسور السويدي أن بومدين قد دخل المرحلة الأخيرة من مرض »والدنستروم« الذي كان يحمل اسمه، وأن الموت قادم لا محالة رغم أن المريض يمكنه أن يعيش بعض الوقت إذا نجح في تجاوز الأزمة الجديدة، وأنه لا جدوى من إجراء عملية جراحية لتفتيت الانسداد الذي ضرب أحد أوردة الدماغ لأن هذه العملية ستؤدي للوفاة.
... على طريق «فرانكو» و«تيتو»
وفي أول ديسمبر 1978 أظهر الفحص بجهاز السكانر وجود حالة تخثرٍ ثانية في دم المخ، ودخل بومدين في حالة غيبوبةٍ عميقة بينما كان 62 اختصاصياً من أنحاء العالم يراقبون جسمه المرتخي، وقلبه الذي كان مايزال يعمل، بينما لم تكن الأعضاء تعمل إلا بواسطة الأجهزة الحديثة المستخدمة، وبدأت كهرباء المخ تضعف، وواصل الأطباء عملهم رغم قناعتهم بعدم جدوى ما يفعلون.
وفي 18 ديسمبر 1978 تفاقمت حالة بومدين على إثر نزيفٍ داخليّ مفاجيء، وبعد ستة أيام اختفت كل مظاهر الحياة عن الرئيس بومدين، بما في ذلك كهرباء المخ التي أخذت شكل خط مستقيم متواصل في الرسم البياني للجهاز الذي يقيس تلك الحركة.
وحسب المصادر الطبية ـ الغربية على وجه الخصوص ـ أن بومدين لم يستعد وعيه منذ أول ديسمبر وبقي على تلك الحالة 27 يوماً، ولم يكن جسمه يعمل فيها إلا بفضل الأجهزة المتطورة، فيما كانت البيانات الصادرة عن السلطات الرسمية تقول إن حالة الرئيس »مستقرة«.
ويرى الكتاب الغربيون أن الجزائر لم تأتِ بسابقةٍ على صعيد إطالة فترة حياة الرئيس بومدين، فإسبانيا فعلت نفس الشيء مع الجنرال »فرانكو« واحتضاره الطويل سنة 1975 ويوغسلافيا أبقت الماريشال »تيتو« في حالة الإنعاش لأسابيع عديدة، واستخدم السوفيات نفس الأسلوب مع »أندريوف« و»شيونينكو«، كما جاء في كتاب »هؤلاء المرضى الذين يحكموننا«.
ومؤامرة »ملاّح«
نتوقف هنا لنبحث الشق السياسي والعلاقات الدولية أثناء مرض بومدين، ثم نعود في الحلقة الأخيرة إلى كيفية تعرضه للسم والأطراف المستفيدة من ذلك،
أول ما يصادفنا الحديث عن عبد العزيز بوتفليقة ـ وزير الخارجية في ذلك العهد ـ في مجلة »روز اليوسف« المصرية العدد 3329 ، وذلك حين قرر الوفد الجزائري تخفيض مدة زيارته إلى سوريا بعد أن اشتد الألم على الرئيس بومدين في دمشق، فقد استدعى بوتفليقة فجأة وقال له:« لنعد الليلة إلى الجزائر... أريد أن أموت في فراشي».
وتذكر المصادر أن بومدين جلس في الطائرة أثناء رحلة العودة، وقد بدا عليه الإجهاد، وغارت عيناه، وعلت مسحة من الانقباض على وجهه، وضاعت منه ملامح الشباب، ولم تنفع المحاولات المستمرة التي بذلها فريق الوفد خصوصاً عبد العزيز بوتفليقة أثناء الرحلة من سوريا إلى الجزائر، وفي نهايتها أشار الرئيس إلى مساعده فأسرع إليه بوتفليقة قائلاً: إن شاء الله لا بأس يا سي بومدين.:
ذلك هو الوصف الأول الذي بدت فيه مشاركة الوزير بوتفليقة رئيسه المريض، أتبعت بأخرى جاءت في نوفمبر 1978 ، كشف فيها الوزير بوتفليقة عن الوضع السياسي من الداخل، حيث صرح لصحيفة »الرأي العام« الكويتية أنه تم إلقاء القبض على الرائد »عمار بن ملاح« الذي دبّر محاولة اغتيال الرئيس هواري بومدين، وعن ذلك التصريح نقلت مختلف وكالات الأنباء والصحف ومنها الصحف المصرية التي نقلنا عنها الخبر السابق، نتيجة لذلك يمكن لنا طرح عدة استفهامات أهمها: ما الرسالة التي تقصد السلطات الجزائرية تمريرها للرأي العام الوطني والعالمي، وهل لمحاولة الاغتيال تلك علاقة بما أوردته الوكالات في بداية مرض بومدين؟ ولماذا تم إخفاء المرض لمدة تجاوزت الأربعين يوماً؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي نجبر على العودة إليها كلما تأملنا مأساة بومدين في أيام مرضه وتحطيم إنجازاته بعدها.
إن عدم وجود تفصيلات بخصوص نشاط القيادات الجزائرية في ذلك الوقت وخصوصاً وزير الخارجية عبد العزيز بوتفليقة باعتباره من المقربين للرئيس بومدين، يدفعنا اليوم إلى المطالبة بإجاباتٍ مقنعة عن الأسئلة السابقة، والحسم بشكلٍ نهائي في قضية لغز وفاة الرئيس إذ لا يعقل أن تظل شهادات البعيدين عن صناعة القرار في الجزائر محركة للأفعال وردودها على الساحة الوطنية.
الرسالة اللغز
من ناحيةٍ أخرى علينا العودة إلى ما جاء في وكالات الأنباء من حديثٍ عن رسالة بعث بها الرئيس بومدين إلى الرئيس الفرنسي »فاليري جيسكار دستان« وهو يعبر الأجواء الفرنسية، وقد أثارت الرسالة وقتها استغراباً ودهشةً لدى المراقبين، ويعود ذلك لكون فرنسا تتابع بحذرٍ تنامي دور الجزائر، حيث كان الرئيس الفرنسي ديستان يرى أمامه مستعمرة الأمس قد أصبحت دولةً مهابة الجانب، وفي ذلك الوقت كان البترول هو أقوى ورقة في يد العرب، لذلك دعا ديستان إلى عقد مؤتمر دولي للطاقة، لكن جزائر بومدين عارضت الفكرة واقترحت أن يكون الموضوع بنداً في مناقشات ندوة تعقدها الأمم المتحدة وتشمل النظام الاقتصادي العالمي.
وحسب الصحفية المصرية »فايزة سعد«، فإن الجزائر كانت في ذلك الوقت ترفع درجة التحدي إلى أعلى مستوى، إذ لم تكن كلمة الاقتصاد العالمي التي طرحتها قد طُرِحَت من قبل، وكان معنى الكلمة بوضوح أنها تتمرد على الكبار، وفعلاً أصيب ديستان بخيبة أمل من موقف الجزائر.
إذاً كيف لبومدين أن يبعث برسالة إلى ديستان وهو مريض، علماً بأنه لم يفعل ذلك من قبل منذ مجيئه للسلطة ولو بالإشارة، هنا تُطرح أسئلة من مثل: من بعث بها؟ ومن صاحب الفكرة أساساً؟ وما أهدافها في زمانها وفي المستقبل آنذاك، الذي أصبح ماضياً الآن؟
للعلم، لم أتمكن من الاطلاع على نص الرسالة لأسباب كثيرة، ليس هنا مجال ذكرها، ولكن الذي أعرفه من قراءاتي أن الأوساط الفرنسية المسؤولة آنذاك لم تدلِ بأي تعليق على تلك الرسالة المشبوهة، غير أن المراقبين السياسيين أبدوا عدة ملاحظات حول الرسالة آنذاك، أهمها:
- تشكل الرسالة لفتة دبلوماسية من جانب الرئيس بومدين بعد احتجابٍ دام عدة أسابيع في الاتحاد السوفياتي، ويمكن أن تفسر على أن الزعيم الجزائري انتهز الفرصة غير العادية للطيران فوق الأراضي الفرنسية للإعراب عن رغبته في التقرب لفرنسا.
- وصفت لهجة البرقية بأنها حارة، خاصةً عندما أكد استعداد الجزائر الكامل لتنقية أجواء العلاقات الفرنسية ـ الجزائرية، ورغبة مسؤوليها في إجراء حوار معها، وبدء صفحة جديدة من التاريخ مثل ماضي زعماء حوض غربي بحر المتوسط.
- أحدثت الفقرة الخاصة بقضية الصحراء الغربية عدة تساؤلات لدى المراقبين.
- من جهتها، علقت الصحف الفرنسية على تلك الرسالة المزعومة بقولها: أنها تتسم، ولأول مرةٍ، بلهجةٍ معتدلة وتدعو لصفحةٍ جديدة من التعاون مع فرنسا.
- وبخصوص الرسالة دائماً فقد قالت صحيفة »لوماتان« الفرنسية إن الخبراء الفرنسيين عاكفون على دراسة نص هذه الرسالة التي صيغت بأسلوبٍ جديد لم يسبق للجزائر أن استخدمته في الدعوة لتجديد التعاون مع فرنسا.
- وأضافت لو ماتان: أن الخبراء يدرسون كل كلمة في الرسالة »الوثيقة« التي يتفق الجميع على أن كاتبها ليس هواري بومدين بناءً على ذلك يتساءل البعض، كما تقول الصحيفة، عما إذا كان ذلك دليلاً على أن هواري بومدين الذي ألمّ به المرض لم يعد ممسكاً بزمام المبادرة السياسية، كما جاء في جريدة الأهرام المصرية عدد 16 نوفمبر 1978.
رسالة الزعيم للملك
بالمقابل، فإن هناك رسالة بعثها بومدين قبل وفاته إلى الملك الحسن الثاني وهي آخر رسالة بعث بها رداً على رسالة الملك، ننقلها بنصها الحرفي كما وردت في مجلة »الصياد« اللبنانية التي نشرتها بتاريخ 15/12/1978 ، علماً بأنها أرسلت ـ حسب المجلة السابقة ـ بتاريخ 21 أكتوبر 1978، وهي رسالة مثيرة للدهشة لجهة ما جاء فيها، ومع أنها طويلة وسبق أن نشرتها ضمن فصلٍ في كتابي »اغتيال بومدين: الوهم والحقيقة«، إلا أنني أعيد نشرها هنا لتعميم الفائدة، وللتذكير بعلاقاتنا مع المغرب في عهد الزعيمين: الرئيس بومدين والملك الحسن الثاني، ونصها كما يلي:
»... صاحب الجلالة:
تسمحون لي يقيناً بأن أرثي هنا للدبوماسية العلنية التي تبدو وكأنها اليوم قد طغت على الدبلوماسية التقليدية، وها أنا ذا أجد نفسي مضطراً للجوء إليها بدوري، ولقد كنت أود كذلك تماماً كما تمنيتموه أن أستأنف الاتصال بكم، وما من شكّ في أن الحوار المباشر كان من الممكن أن يكون أفضل، ولكن هل يمكن تصور مثل هذا الحوار بعد المواقف التي اتخذها كل منّا مؤخراً بشأن القضية الفلسطينية وامتداداتها على الشرق الأوسط والأمة العربية؟
ومع ذلك فباستطاعتي أن أؤكد لكم منذ الآن أن الجزائر لن تتأخر أمام أي مجهود لتقديم مساهمتها المتواضعة في البحث عن سلام عادل بين المتحاربين في النزاع الدائر حاليا بالصحراء الغربية.
معاهدة »إيفران«
ومرةً أخرى ألاحظ، للأسف، من خلال رسالتكم أن التأكيدات تتسم بالقطيعة وأن الاتهامات الموجهة للجزائر أخطر منها، وكنت أشعر بوقع المفاجأة لولا أثر التعود ولولا الحصانة التي يوفرها هذا التعود، على أني أود أن لا أسمح لنفسي بالاعتقاد في كون الانتهاكات المتكررة المزعومة للحدود المغربية من قبل الجيش الوطني الشعبي ليس لها من غاية سوى تبرير عدوان مبيّت على بلدي.
ومهما يكن فإن مسعىً كهذا لن يكون صادراً إلا عن تصميمٍ واضحٍ على تضليل الرأي العام المغربي والأفريقي والدولي عن طبيعة الصراع الذي يحزن منطقتنا، ومع ذلك فقد استطاعت جلالتكم وأنا بالذات أن نرتفع بسياسة بلدينا طيلة سنوات عشر إلى مستوى التطلعات الطبيعية لشعبينا، اللذين تربطهما ـ كما تعلمون ـ روابط أقوى من التطلبات الحتمية التي يقتضيها مجرى الحوار وفي تلك الفترة عرفت منطقتنا عهدا من الازدهار، كما استطعنا رغم المحن والشدائد المحلية والعربية أن نعمل معاً يداً في يد وأن نسهم مساهمة حقيقة في تحرير شعوب قارتنا والعالم العربي وفي ترقية العالم الثالث على المسرح الدولي.
ولقد كانت مثل هذه السياسة تستمد إلهامها الأول من متطلبات الأخوة وحسن الجوار والتعاون التي تكرسها معاهدة »إيفران«، تلك المعاهدة التي نود أن نؤكد هنا تمسكنا بها، وهذه المتطلبات الثلاثة تركز أساساً على السلام، الذي ما من شك أنه يشكل في نظر جلالتكم ونظرنا جزءاً لا يتجزأ من عدالة الشعوب وحريتها.
كبوات الطريق وعثرات التاريخ
ثم جاءت اتفاقية 1972 التي أشهدت أفريقيا والعالم على التوقيع عليها لتساعدنا بالذات على التسامي بصورة نهائية على ما تواضعنا باتفاق مشترك على تسميته حيناً »بكبوات الطريق« وأحياناً أخرى بـ»عثرات التاريخ«، وحتى نؤكد إيماننا نحن بالتصديق على اتفاقات الرباط بشقيها المتمثلين في ترسيم التعاون ورسم الحدود بين الجزائر والمغرب.
ولا نزاع في أن صفحة من هذا التاريخ قد كتبت بهذا الاتفاق، مكرسين بذلك حرمة الحدود الموروثة لدى استرجاع استقلالنا، ومجنّبين شعبينا سواء لهذا الجيل أو ما يعقبه من أجيال شر ما يمكن أن يحدث من حالات سوء التفاهم أو التوترات، بل والمآسي الممكن حدوثها على الدوام والتي لا يمكن أن نقدر عواقبها الوخيمة، فمن وراء المودة الصادقة التي صنعتها رفقة في الكفاح وأخوة في السلاح كانت العلاقات القائمة بين شعبينا والروابط الشخصية مع جلالتكم، تزيدها قوة ومتانة تلك الثقة المتبادلة كذلك، والصدق الذي لا تشوبه شائبة والصراحة التي لا تخالطها مجاملة، بل وكل شيءٍ يستبعد إلا الالتباس والرياء والمداهنة.
إن مسعانا رغم كل ما قيل وكتب لا يتسم بولاء مطلق روحا ونصا بمعاهدة »إيفران« واتفاقيات سنة 1972 ، وفي الوقت ذاته لمبدإ تقرير الشعب الصحراوي لمصيره، ذلك المبدأ الذي ما برحت الجزائر بالتشاور مع المغرب وموريتانيا، تدافع عنه سواء على صعيد الهيئات الإقليمية أم في المحافل الدولية، وهذه السياسة المتصلة بعبقرية شعبنا وتاريخه لا يمكن أن نتنكر لها مهما كان الثمن.
وحيث إن الأمر يتعلق بالتزامات رئيس دولة تجاه شعبه وبلده، فإن جلالتكم على علم بأن أحداثا ذات خطورة قصوى قد سبق أن شهدت بهدوئنا وتسامحنا في كل الظروف، وبعزيمتنا على ألا نألوا جهدا في سبيل تفادي ما لا تحمد عقباه، وتجنيب شعبينا وتاريخنا وأسرتنا الروحية ويلات فتنة مشحونة ـ لا محالة ـ بمخاطر وخيمة العواقب، ولقد حان الوقت لنكرر القول على مرأى ومسمع من العالم أنه ليس ثمة أي نزاع قائم بين الجزائر والمغرب، ومن واجب شعبينا ومن واجب العالم أن يعلموا ذلك.
سياسة المصالح والمبادئ
صحيح أنه ليس من السهل الميسور دائماً الاختيار بين سياسة قائمة على المصالح وسياسة قائمة على المبادئ، ولقد اختارت الجزائر من جهتها، وغالباً ما كان الشعب الجزائري لولاها أن يكون على ما هو عليه، وما يجب أن يكون عليه، لقد كان التزامنا إزاء تصفية الاستعمار التزاما واحداً في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، ولا ننوي تغييره أبداً.
والذي وقع هو أنكم تتكلمون اليوم عن حوادث وقعت داخل حدودكم المرسومة سنة 1972 والتي اعترفنا بها، واعترفت بها أفريقيا والمجموعة الدولية، وإني لأؤكد لجلالتكم وأنا على بصيرة من الأمر باسم الروابط التي لا تنفصم عراها والتي ستقوم دائما بين شعبينا أنه لم يتخطَ أي جندي جزائري أبدا حدودكم الوطنية وبالذات تلك الحدود التي رسمناها معاً سنة 1972.
وقد سبق لي قبل بضعة أشهر فقط أن صرحت رسميا وعلانية أمام مجلس الشعب الوطني أن القوات الجزائرية لن تتدخل بأي حال من الأحوال إلى ما وراء حدودنا، وأنها وهي الحارسة اليقظة لسيادتنا الوطنية ولوحدة ترابنا ستحرص على صد كل هجوم يشن على بلدنا ومايزال خط سيرنا هذا دون تغيير.
ويبقى بطبيعة الحال نزاع الصحراء الغربية وامتدادات كفاح الشعب الصحراوي الذي ما برحنا نحن وغالبية المجموعة الدولية نؤمن بشرعيته، والذي ليست المساندة له سرا غامضا ولا سرا من أسرار الدولة، فثمة مشكلة سياسية لا يمكن أن تحل في نظرنا إلا بالطرق السياسية.
وإذا كنتم تدينون مثلنا إلحاق الأراضي بالقوة، وترفضون سياسة الأمر الواقع وتؤمنون بحق الشعوب كبيرها وصغيرها في الوجود، فلا يمكن إلا أن نكون في صفٍ واحد للسير بمنطلقنا ـ إذا ما كنت تلك إرادة الآخرين ـ وإرادة شعبينا الشقيقين على الأقل، في الطريق الوحيد الجدير بهما، طريق الوحدة ضمن احترام الاختلافات والمؤسسات والاختيارات، ومن المؤكد أن مهمة كهذه ليست مهمة ميسورة لكن هل هي فوق المجهود الصادق والمتضافر الذي يبذله رجال هم على رأس الجيل الذي صنع الاستقلال الوطني سواء في الجزائر أم في المغرب؟
أما أنا فبودي ألا أكف عن الإيمان بحكمتكم وأؤكد لكم مرة أخرى أمام الله وأمام التاريخ صدق إيماني الراسخ في بناء مغرب سيتم حتما عن طريق الحوار واحتكاك الافكار، لا عن طريق الاتهامات وقرع السلاح.
وأرجو من جلالتكم قبول فائق الاحترام والتقدير.
أخوكم: هواري بومدين«
الأمر لا ينتهي هنا، وسنتابع تفصيلات العلاقات الجزائرية المغربية من خلال رؤية الملك الحسن الثاني في الحلقة المقبلة.
في الحلقة المقبلة:
ذاكرة »الحسن الثاني« وشهادة »طلاس«... وذكريات كاتب
* أخبار الاغتيال بالسم بين دمشق والقاهرة والجزائر
* دور »عبدالله ركيبي« في البحث عن الحقيقة
* استنفار في بغداد وترحيب في الكويت
رد: القصة الكاملة لوفاة بومدين
القصة الكاملة لوفاة بومدين... الشهادات والوقائع (4-4) ( الحلقة الأخيرة)
ذاكرة "الحسن" الثاني وشهادة "طلاس"... وذكريات كاتب
2008.07.26
خالد عمر بن ققه
انتهينا في الحلقة السابقة إلى ذكر آخر رسالة بعث بها الرئيس الراحل هواري بومدين إلى الملك المغربي الحسن الثاني، يرحمهما الله، ويأتي ذكرها من منطلق الحديث الذي دار في بعض وسائل الإعلام.
* أخبار الاغتيال بالسم بين دمشق والقاهرة والجزائر
* دور "عبد الله ركيبي" في البحث عن الحقيقة
* استنفار في بغداد... وترحيب في الكويت
وتركز على افتراض أن للمغرب دوراً في تصفية بومدين، وقد زاد من ذلك أن وكالات الأنباء العالمية أشارت في 30 ديسمبر 1978 ضمن تقاريرها الصحفية الواردة من الجزائر، ومنها »أن السلطات الجزائرية رحبت في البداية بمشاركة المغرب في تشييع جنازة بومدين، ثم أعلنت بعد ذلك أن زيارة المغرب غير مرغوب فيها، وأوضحت أن علاقات البلدين المتوترة بالفعل بسبب النزاع على الصحراء الغربية منذ أربع سنوات، زادت سوءاً حين أعلنت الجزائر أن المغرب سيوفد إلى الجنازة »محمد البصري« أحد زعماء المعارضة اليسارية الذي صدر حكم غيابي بإعدامه لاشتراكه في مؤامرة ضد الملك...«.
وكما نلاحظ فإن صياغة البرقية متضاربة في فقراتها إلى حدٍ بعيد، بحيث لا يمكن معرفة رفض الجزائر أهو بسبب موقف خاص تجاه المغرب أم لأن المملكة المغربية رفضت أن يمثلها محمد البصري على اعتبار أنه معارض؟
الموفد والتحذير
وبعيدا عن البرقية فإنه لا يوجد ما يؤكد مشاركة المغرب في جريمة اغتيال بومدين ـ إن صحت المعلومات ـ إلا إذا أخذنا في عين الاعتبار ما قاله موفد الملك الحسن الثاني للرئيس بومدين قبل مرضه بشهور حين قابله في الجزائر: سيادة الرئيس يقول لك مولاي أننا إذا لم نلتق في مطلع العام القادم... فإننا لن نلتقي أبداً.
لقد قُرئت عبارات الموفد السابقة من جهاتٍ متعددة، وذهبت الصحفية المصرية »فايزة سعد« إلى اعتبارها رسالة تحذير من ملك المغرب لبومدين، غير أن مثل هذا التأويل يفنده ما جاء على لسان الملك الحسن الثاني في كتابه »ذاكرة ملك« الذي نُشر حلقاتٍ في صحيفة »الشرق الأوسط« والذي كان عبارة عن حوارات أجراها الصحافي الفرنسي »إيريك لوران«، حيث يذكر علاقته منذ وصول بومدين إلى الحكم إلى غاية وفاته بإجابات مختصرة حيث يقول:
- لم أكن أعرف بومدين ولا بوتفليقة وزير خارجيته الذي كان هو الآخر في وجدة، حتى أن بومدين قال لي يوماً: أظن أنني أعرف الدار البيضاء والطريق المؤدي منها إلى وجدة أحسن منك.
يضيف الملك الحسن الثاني معلقاً على كلام بومدين السابق:
- لا شك في ذلك.
مودة "الحسن الثاني" وألغاز بومدين
وحين سأله لوران عن متى تم لقاءه ببومدين بعد وصول الحكم قال الملك:
- لا أذكر تاريخ اللقاء بالضبط، لكني وجدته رجلاً صعب المراس نوعاً ما ويعسر فهمه، أقول هذا بعد مرور كل هذا الوقت، لقد كان متحفظاً جداً، حذراً منطوياً على نفسه قليل الانشراح، ومع مرور الأعوام قامت بيننا مودة وصداقة وتبادلنا النكت واللعب »بالكلمات«، كان شخصا تثير نوعية مزاجه الاهتمام، ويفرض دوما على مخاطبه جهدا لفك ألغاز كلامه وهذا أمر متعب مع مرور الوقت، وإلى أن قام مشكل الصحراء، لم أكن أعتقد أنني أتعامل مع رجل مزدوج الشخصية، واستمر ذلك إلى أن رأيت بومديناً آخر يخرج من قمقمه. لقدا بدا في صورة مغايرة، إن بومدين كان يسعى لفرض هيمنته على المنطقة.
وعن سؤاله عن نظرة بومدين للعلاقات الجزائرية ـ المغربية، أجاب الملك:
- كانت نظرة واقعية تماما، كان يقول لي باستمرار: أريد مغربا مستقرا مزدهرا، إلا أنه كان يتجاهل أن يزيد على ذلك قوله: شريطة ألا يزاحم الجزائر.
يضيف الملك الحسن الثاني معلقا على قول بومدين:
- لم أكن أسعى إلى مزاحمة الجزائر، ولكنني لم أكن أقبل أن تزاحمني. إنني أريد أن يقوم بيننا تعاون، خصوصا جنوب المغرب والجزائر.
الزعيمان ورقعة الشطرنج والفراغ
أقوال الملك السابقة يمكن اعتبارها مدخلا واعيا لما سيأتي لاحقاً، حين يجيب عن سؤال لوران: كيف كان شعوركم عند وفاته؟
يقول الملك الحسن الثاني:
- قلت لبعض المقربين عقب موته: كنا نتعارك كثيراً وتبارزنا وتسابقنا للتفوق على رقعة الشطرنج، حتى إننا مع وجود الفارق كدنا نشبه الثنائي الذي شكله في الماضي »شارل كونت« و»فرونسوا« الأول، ثم قلت: سبحان الله، إن الأول الذي توفي خلق فراغا لدى الآخر... إنني أحسست بفراغ بعد موت بومدين لأن كلانا اعتاد أن ينظر إلى الآخر ويقول مجاملا: »مرحى، لقد سجلت هدفاً عليّ، ومع ذلك كادت الأمور تتطور إلى ما لا تحمد عقباه، وقد أسر للبعض: لو كنت أعرف أن المغرب كان سيصمد هذه السنين الثلاث في الصحراء ما كنت لأغامر في هذه القضية، ولو قدر له أن عاش اليوم لرأى أن المغرب صمد لمدة ست عشرة سنة.
شهادة الملك السابقة تتناقض في آخر مقطع منها، والخاص بقضية الصحراء، مع ما جاء في رسالة بومدين الأخيرة التي بعثها للملك والتي أوردناها كاملة في الحلقة السابقة، لكن الذي يهمنا هنا أنه لا يمكن التعويل على التأويلات لاتهام المغرب مثلا باغتيال بومدين، خصوصا بعد أن أعلن صراحة وزير الدفاع السوري الأسبق العميد الأول »مصطفى طلاس« بأن الرئيس العراقي »صدام حسين« هو الذي اغتال بومدين بسم الثاليوم.
... بين"حمودة" و"ركيبي"
كانت السنوات تمر ثقيلة علي في القاهرة رغم النشاط المكثف، حتى إذا ما حلت نهاية سنة خمسٍ وتسعين، وحين قارب موعد الذكرى السابعة عشرة من وفاة بومدين، تغيرت حركة الحياة لديّ وخرجت من رتابتها، ففي 25 ديسمبر 1995 نشرت مجلة »روز اليوسف« في عددها 3524 حواراً أجراه الصحافي »عادل حمودة« ـ نائب رئيس تحرير المجلة ـ مع وزير الدفاع السوري العماد الأول »مصطفى طلاس«، وقد ذكر هذا الأخير ضمن سياق عام للحوار ما يلي:
"..الحقيقة أن صدام حسين نحر الفكر القومي، وأكثر من ذلك وضع السم للرئيس بومدين بعد أن هدده بكشف خبايا اتفاق الجزائر...".
اتصلت بالأستاذ »عادل حمودة« لمعرفة التفاصيل، فلم أجد لديه ما يسمن أو يغني من جوع، وبدأت في إجراء اتصالاتٍ لترتيب حوار مع وزير الدفاع السوري.
بعدها بأيامٍ اتصلت بسفير الجزائر في سوريا »عبدالله ركيبي« الذي بذل جهودا كبيرة لإجراء الحوار، وحدد لي موعداً دافعاً لي للأمام من أجل الوصول إلى الحقيقة، وفي جلسة طويلة معه على مأدبة غداء في بيته أبصرني بضرورة تناول الموضوع من جميع زواياه، ويجب التذكير هنا أن الأديب والدبلوماسي »ركيبي« يتمتع بعلاقات واسعة هناك، ليس على المستوى الدبلوماسي فحسب، وإنما على المستوى الثقافي أيضا، ويحظى باحترام كبير من النخب المختلفة.
سم الثاليوم
المهم، التقيت بالعماد الأول مصطفى طلاس في وزارة الدفاع، وبما أن الوقت لم يكن كافياً فقد فضل أن يجرى الحوار في بيته، وهناك التقاني لمدة فاقت الساعة والنصف، وكانت أسئلتي استفزازية، لأنني وإلى الآن لم أقتنع بتأخير إعلان اغتيال صدام لبومدين بالسم إلى ذلك الوقت، لكن مع إصرار طلاس كان عليّ أن أورد القصة كما هي، وقد نشرت في جريدة »العالم اليوم« في حلقتين وأيضا في »الشروق العربي«، وردت السفارة العراقية آنذاك بتكذيب لما جاء في حوار طلاس الخاص باغتيال صدام لبومدين بالسم.
تقول رواية طلاس إن السم الذي وضعه صدام لبومدين عند وداعه في كوب من العصير هو سم الثاليوم، وهو سم مركب من سبعة أنواع، حتى إذا تمكن الدواء من القضاء على النوع الأول، يبدأ الثاني فالثالث...الخ، وهو سم لا ينفع فيه العلاج مطلقا.
ويذكر طلاس أن بومدين حين جاء إلى مؤتمر »الصمود والتصدي«، وهو نازل بالمصعد، قال للرئيس »حافظ الأسد«:
أحس أن أمعائي تتقطع، أود إن وقع لي شيء أن أكون في الجزائر.
ويضيف طلاس معلقاً:
- أكثر الأماكن التي يؤثر فيها السم هي المعدة.
السؤال هنا: لماذا قتل صدام بومدين بالسم، إذا صحت المعلومات السابقة؟... يرد طلاس بقوله:
- لأن بومدين لو بقي حيّا لكشف كل أوراق صدام حسين للرئيس حافظ الأسد، بل إنه كان سيكشفه في كل المؤتمرات العربية، وكان الهدف ألا يكون بومدين حاضرا في مؤتمر القمة الذي عقد في بغداد؛ لأنه لابد أن يرحل في نظر صدام.
جهود" البعيجان"
المدهش في كل ما قيل آنفا، خصوصا اتهام صدام، أنه كان مجرد استنتاج سياسي وليس معلومات مؤكدة على حد ما جاء في قول طلاس، علما بأنه كان يقول مثل هذه الأخبار في مجالسه الخاصة، وأنه ظل يخفي ذلك لأن الأمة العربية لم تكن قابلة لإثارة مثل هذا الموضوع، ناهيك عن أن سوريا كانت تحاول إجراء اتفاقات مع العراق في ذلك الوقت.
لقد جاءت تلك الشهادة عابرة ضمن تحليلات سبقتها اتجاهات الرأي العام في الصحافة الدولية لتحديد اتجاه بومدين ومساره ودور المدارس الطبية المختلفة في علاجه، وبقيت مهمة لأطرافٍ عربية من ذلك ما بذله الصديق العزيز »صقر البعيجان« رئيس المركز الإعلامي الكويتي في القاهرة لجهة محاولة نشر الكتاب »اغتيال بومدين« على حلقات ـ في الصحف الكويتية، غير أن هذه الأخيرة اعتذرت، وبعد طباعة الكتاب تحمست له وزارة الإعلام الكويتية واشترت منه ألفي نسخة، لكنها بعد أن دفعت ثمنها اكتفت باقتناء خمسمئة نسخة، وواضح أن الذي كان يهمها بالأساس هو اتهام صدام.
بالعودة إلى مذكرات تلك الأيام أقول إن مسألة البحث في اغتيال بومدين كانت جهدا شخصيا ذاتيا، لا دخل لأي طرف فيه، ولم يوظف لصالح أي جهة ما، لا داخل الجزائر ولا خارجها، وكنت أتابع الأمر بعين الصحافي الباحث عن الحقيقة، الآن، وبعد سنة ونصف من إعدام صدام، يتضح لدينا أن الأمر كان يتعلق بصراعات كبرى مع العدو الصهيوني تقضي على كل قادته، ولسنا هنا بصدد تبرئة أية جهة، ولكن الحق يضيع إذا لم يكن وراءه مطالبون، وباستثناء الرأي العام الجزائري الذي يتفاعل سلبا وإيجابا مع قضاياه، فلا أحد في الجزائر من السياسيين أو صناع القرار يعمل بجد من أجل كشف الحقائق، وكأن الأمر لا يعنيهم، وبذلك طويت عدة ملفات مصيرية تتعلق بحاضر الدولة الجزائرية ومستقبلها.
"عميمور" والقنبلة الإسلامية
مع كل ما ذكر سابقا تظل مسألة اغتيال بومدين ـ إن صحت المعلومات ـ لها أبعادها الدولية أيضا، استنادا إلى ما ذكره الدكتور »محيي الدين عميمور« في كتابه »أيام مع الرئيس هواري بومدين« بقوله:
- ربما كان مما يراود الرئيس بومدين تصورات كثيرة حول إمكانية التعاون الجزائري ـ الباكستاني في مجال كان الحديث حوله يدور همسا، وميدان التعاون النووي، حيث كانت باكستان بقيادة »بوتو« تعطي هذا الميدان اهتماما كبيرا إلى الأوجه التي دفعت البعض إلى القول بأن هذا الاتجاه نحو امتلاك قوة نووية هو الذي أدى إلى التخلص من بوتو خوفا مما يسمى في الصحف الغربية بـ»القنبلة النووية الإسلامية«.
مواجهة بومدين إذاً كانت ضمن الدائرة الإسلامية وليس القومية فقط، ومادام الأمر كذلك فمن الطبيعي أن يخشاه الغرب، وتبعا لذلك يحق لنا اتهام هذا الأخير باغتياله، خصوصا وأن فكرة إنشاء القنبلة الإسلامية سبق أن بدأت توضح بنودها على نحو يجعل التمويل من ليبيا والعلماء من باكستان والتجارب في الجزائر، وكان الغرب كعادته يتابع تطورات العالم الإسلامي فبدأ بالإطاحة بالرئيس »علي بوتو« وأرسل إلى حبل المشنقة، وكانت نهاية بومدين هي ما نعرفه، وأعدم صدام بالطريقة التي شاهدناها واحتلت بلاده.
"سعدي" و"الشروق" و"بوتفليقة"
خلاصة القول أنه ليست هناك أدلة كافية أو وثائق يمكن التعويل عليها لإصدار حكم نهائي فاصل لجهة القول باغتيال بومدين، إنما هي مجرد تأويلات وقراءات مختلفة تستدعيها طبيعة كل مرحلة، وحتى ما جاء على لسان طلاس في حديثه لي في 1996 باعتباره شهادة، أو ما جاء على لسان »حامد الجبوري« في برنامج »شاهد على العصر« عبر قناة »الجزيرة«، أو ما سبق ذلك من كتابات جميعها لا يمكن اعتبارها دليلاً كافيا على اغتيال الزعيم بومدين.
غير أن هناك ما يثير الانتباه في هذا الموضوع هو حياة الرجل بيننا وتحكمه في حياتنا لمدة قاربت الثلاثين سنة من رحيله، وهو أمر يستدعي مزيدا من البحث، حيث لا يظل صانع القرار في الجزائر مكبلا بقيود الماضي على ما فيها من إيجابيات وجمالية وتعلق بالأفق الرحب، وأهم صانع قرار في البلاد مطالب اليوم بالحسم في هذا الموضوع هو الرئيس »عبد العزيز بوتفليقة«، فلقد سبق للتجمع الوطني البومديني الإسلامي بقيادة »محمد سعدي« أن طالب بتدخل الدولة الجزائرية وقطع العلاقات مع العراق زمن الرئيس صدام حسين، حين اتهم من طرف طلاس باغتيال بومدين، لكن الدولة الجزائرية لم تتحرك في حدود ما نعلم.
كما سبق للشروق العربي أن اتخذت موقفا مشرفاً في ذلك الوقت من رد فعل العراق، وقبل ذلك بنشرها للموضوع، والقضايا الكبرى الخاصة بالدولة لا تقودها الأحزاب ولا أجهزة الإعلام، إنما هي عمل ترسيه مؤسسات الدولة التي عمل بومدين من أجل ألا تزول بزوال الرجال والحكومات... فهل من واعٍ لما ينتظرنا في المستقبل من امتداد هذا الملف إلى ملفات أخرى بات قريباً دفعها إلى واجهة الأحداث؟.
ذاكرة "الحسن" الثاني وشهادة "طلاس"... وذكريات كاتب
2008.07.26
خالد عمر بن ققه
انتهينا في الحلقة السابقة إلى ذكر آخر رسالة بعث بها الرئيس الراحل هواري بومدين إلى الملك المغربي الحسن الثاني، يرحمهما الله، ويأتي ذكرها من منطلق الحديث الذي دار في بعض وسائل الإعلام.
* أخبار الاغتيال بالسم بين دمشق والقاهرة والجزائر
* دور "عبد الله ركيبي" في البحث عن الحقيقة
* استنفار في بغداد... وترحيب في الكويت
وتركز على افتراض أن للمغرب دوراً في تصفية بومدين، وقد زاد من ذلك أن وكالات الأنباء العالمية أشارت في 30 ديسمبر 1978 ضمن تقاريرها الصحفية الواردة من الجزائر، ومنها »أن السلطات الجزائرية رحبت في البداية بمشاركة المغرب في تشييع جنازة بومدين، ثم أعلنت بعد ذلك أن زيارة المغرب غير مرغوب فيها، وأوضحت أن علاقات البلدين المتوترة بالفعل بسبب النزاع على الصحراء الغربية منذ أربع سنوات، زادت سوءاً حين أعلنت الجزائر أن المغرب سيوفد إلى الجنازة »محمد البصري« أحد زعماء المعارضة اليسارية الذي صدر حكم غيابي بإعدامه لاشتراكه في مؤامرة ضد الملك...«.
وكما نلاحظ فإن صياغة البرقية متضاربة في فقراتها إلى حدٍ بعيد، بحيث لا يمكن معرفة رفض الجزائر أهو بسبب موقف خاص تجاه المغرب أم لأن المملكة المغربية رفضت أن يمثلها محمد البصري على اعتبار أنه معارض؟
الموفد والتحذير
وبعيدا عن البرقية فإنه لا يوجد ما يؤكد مشاركة المغرب في جريمة اغتيال بومدين ـ إن صحت المعلومات ـ إلا إذا أخذنا في عين الاعتبار ما قاله موفد الملك الحسن الثاني للرئيس بومدين قبل مرضه بشهور حين قابله في الجزائر: سيادة الرئيس يقول لك مولاي أننا إذا لم نلتق في مطلع العام القادم... فإننا لن نلتقي أبداً.
لقد قُرئت عبارات الموفد السابقة من جهاتٍ متعددة، وذهبت الصحفية المصرية »فايزة سعد« إلى اعتبارها رسالة تحذير من ملك المغرب لبومدين، غير أن مثل هذا التأويل يفنده ما جاء على لسان الملك الحسن الثاني في كتابه »ذاكرة ملك« الذي نُشر حلقاتٍ في صحيفة »الشرق الأوسط« والذي كان عبارة عن حوارات أجراها الصحافي الفرنسي »إيريك لوران«، حيث يذكر علاقته منذ وصول بومدين إلى الحكم إلى غاية وفاته بإجابات مختصرة حيث يقول:
- لم أكن أعرف بومدين ولا بوتفليقة وزير خارجيته الذي كان هو الآخر في وجدة، حتى أن بومدين قال لي يوماً: أظن أنني أعرف الدار البيضاء والطريق المؤدي منها إلى وجدة أحسن منك.
يضيف الملك الحسن الثاني معلقاً على كلام بومدين السابق:
- لا شك في ذلك.
مودة "الحسن الثاني" وألغاز بومدين
وحين سأله لوران عن متى تم لقاءه ببومدين بعد وصول الحكم قال الملك:
- لا أذكر تاريخ اللقاء بالضبط، لكني وجدته رجلاً صعب المراس نوعاً ما ويعسر فهمه، أقول هذا بعد مرور كل هذا الوقت، لقد كان متحفظاً جداً، حذراً منطوياً على نفسه قليل الانشراح، ومع مرور الأعوام قامت بيننا مودة وصداقة وتبادلنا النكت واللعب »بالكلمات«، كان شخصا تثير نوعية مزاجه الاهتمام، ويفرض دوما على مخاطبه جهدا لفك ألغاز كلامه وهذا أمر متعب مع مرور الوقت، وإلى أن قام مشكل الصحراء، لم أكن أعتقد أنني أتعامل مع رجل مزدوج الشخصية، واستمر ذلك إلى أن رأيت بومديناً آخر يخرج من قمقمه. لقدا بدا في صورة مغايرة، إن بومدين كان يسعى لفرض هيمنته على المنطقة.
وعن سؤاله عن نظرة بومدين للعلاقات الجزائرية ـ المغربية، أجاب الملك:
- كانت نظرة واقعية تماما، كان يقول لي باستمرار: أريد مغربا مستقرا مزدهرا، إلا أنه كان يتجاهل أن يزيد على ذلك قوله: شريطة ألا يزاحم الجزائر.
يضيف الملك الحسن الثاني معلقا على قول بومدين:
- لم أكن أسعى إلى مزاحمة الجزائر، ولكنني لم أكن أقبل أن تزاحمني. إنني أريد أن يقوم بيننا تعاون، خصوصا جنوب المغرب والجزائر.
الزعيمان ورقعة الشطرنج والفراغ
أقوال الملك السابقة يمكن اعتبارها مدخلا واعيا لما سيأتي لاحقاً، حين يجيب عن سؤال لوران: كيف كان شعوركم عند وفاته؟
يقول الملك الحسن الثاني:
- قلت لبعض المقربين عقب موته: كنا نتعارك كثيراً وتبارزنا وتسابقنا للتفوق على رقعة الشطرنج، حتى إننا مع وجود الفارق كدنا نشبه الثنائي الذي شكله في الماضي »شارل كونت« و»فرونسوا« الأول، ثم قلت: سبحان الله، إن الأول الذي توفي خلق فراغا لدى الآخر... إنني أحسست بفراغ بعد موت بومدين لأن كلانا اعتاد أن ينظر إلى الآخر ويقول مجاملا: »مرحى، لقد سجلت هدفاً عليّ، ومع ذلك كادت الأمور تتطور إلى ما لا تحمد عقباه، وقد أسر للبعض: لو كنت أعرف أن المغرب كان سيصمد هذه السنين الثلاث في الصحراء ما كنت لأغامر في هذه القضية، ولو قدر له أن عاش اليوم لرأى أن المغرب صمد لمدة ست عشرة سنة.
شهادة الملك السابقة تتناقض في آخر مقطع منها، والخاص بقضية الصحراء، مع ما جاء في رسالة بومدين الأخيرة التي بعثها للملك والتي أوردناها كاملة في الحلقة السابقة، لكن الذي يهمنا هنا أنه لا يمكن التعويل على التأويلات لاتهام المغرب مثلا باغتيال بومدين، خصوصا بعد أن أعلن صراحة وزير الدفاع السوري الأسبق العميد الأول »مصطفى طلاس« بأن الرئيس العراقي »صدام حسين« هو الذي اغتال بومدين بسم الثاليوم.
... بين"حمودة" و"ركيبي"
كانت السنوات تمر ثقيلة علي في القاهرة رغم النشاط المكثف، حتى إذا ما حلت نهاية سنة خمسٍ وتسعين، وحين قارب موعد الذكرى السابعة عشرة من وفاة بومدين، تغيرت حركة الحياة لديّ وخرجت من رتابتها، ففي 25 ديسمبر 1995 نشرت مجلة »روز اليوسف« في عددها 3524 حواراً أجراه الصحافي »عادل حمودة« ـ نائب رئيس تحرير المجلة ـ مع وزير الدفاع السوري العماد الأول »مصطفى طلاس«، وقد ذكر هذا الأخير ضمن سياق عام للحوار ما يلي:
"..الحقيقة أن صدام حسين نحر الفكر القومي، وأكثر من ذلك وضع السم للرئيس بومدين بعد أن هدده بكشف خبايا اتفاق الجزائر...".
اتصلت بالأستاذ »عادل حمودة« لمعرفة التفاصيل، فلم أجد لديه ما يسمن أو يغني من جوع، وبدأت في إجراء اتصالاتٍ لترتيب حوار مع وزير الدفاع السوري.
بعدها بأيامٍ اتصلت بسفير الجزائر في سوريا »عبدالله ركيبي« الذي بذل جهودا كبيرة لإجراء الحوار، وحدد لي موعداً دافعاً لي للأمام من أجل الوصول إلى الحقيقة، وفي جلسة طويلة معه على مأدبة غداء في بيته أبصرني بضرورة تناول الموضوع من جميع زواياه، ويجب التذكير هنا أن الأديب والدبلوماسي »ركيبي« يتمتع بعلاقات واسعة هناك، ليس على المستوى الدبلوماسي فحسب، وإنما على المستوى الثقافي أيضا، ويحظى باحترام كبير من النخب المختلفة.
سم الثاليوم
المهم، التقيت بالعماد الأول مصطفى طلاس في وزارة الدفاع، وبما أن الوقت لم يكن كافياً فقد فضل أن يجرى الحوار في بيته، وهناك التقاني لمدة فاقت الساعة والنصف، وكانت أسئلتي استفزازية، لأنني وإلى الآن لم أقتنع بتأخير إعلان اغتيال صدام لبومدين بالسم إلى ذلك الوقت، لكن مع إصرار طلاس كان عليّ أن أورد القصة كما هي، وقد نشرت في جريدة »العالم اليوم« في حلقتين وأيضا في »الشروق العربي«، وردت السفارة العراقية آنذاك بتكذيب لما جاء في حوار طلاس الخاص باغتيال صدام لبومدين بالسم.
تقول رواية طلاس إن السم الذي وضعه صدام لبومدين عند وداعه في كوب من العصير هو سم الثاليوم، وهو سم مركب من سبعة أنواع، حتى إذا تمكن الدواء من القضاء على النوع الأول، يبدأ الثاني فالثالث...الخ، وهو سم لا ينفع فيه العلاج مطلقا.
ويذكر طلاس أن بومدين حين جاء إلى مؤتمر »الصمود والتصدي«، وهو نازل بالمصعد، قال للرئيس »حافظ الأسد«:
أحس أن أمعائي تتقطع، أود إن وقع لي شيء أن أكون في الجزائر.
ويضيف طلاس معلقاً:
- أكثر الأماكن التي يؤثر فيها السم هي المعدة.
السؤال هنا: لماذا قتل صدام بومدين بالسم، إذا صحت المعلومات السابقة؟... يرد طلاس بقوله:
- لأن بومدين لو بقي حيّا لكشف كل أوراق صدام حسين للرئيس حافظ الأسد، بل إنه كان سيكشفه في كل المؤتمرات العربية، وكان الهدف ألا يكون بومدين حاضرا في مؤتمر القمة الذي عقد في بغداد؛ لأنه لابد أن يرحل في نظر صدام.
جهود" البعيجان"
المدهش في كل ما قيل آنفا، خصوصا اتهام صدام، أنه كان مجرد استنتاج سياسي وليس معلومات مؤكدة على حد ما جاء في قول طلاس، علما بأنه كان يقول مثل هذه الأخبار في مجالسه الخاصة، وأنه ظل يخفي ذلك لأن الأمة العربية لم تكن قابلة لإثارة مثل هذا الموضوع، ناهيك عن أن سوريا كانت تحاول إجراء اتفاقات مع العراق في ذلك الوقت.
لقد جاءت تلك الشهادة عابرة ضمن تحليلات سبقتها اتجاهات الرأي العام في الصحافة الدولية لتحديد اتجاه بومدين ومساره ودور المدارس الطبية المختلفة في علاجه، وبقيت مهمة لأطرافٍ عربية من ذلك ما بذله الصديق العزيز »صقر البعيجان« رئيس المركز الإعلامي الكويتي في القاهرة لجهة محاولة نشر الكتاب »اغتيال بومدين« على حلقات ـ في الصحف الكويتية، غير أن هذه الأخيرة اعتذرت، وبعد طباعة الكتاب تحمست له وزارة الإعلام الكويتية واشترت منه ألفي نسخة، لكنها بعد أن دفعت ثمنها اكتفت باقتناء خمسمئة نسخة، وواضح أن الذي كان يهمها بالأساس هو اتهام صدام.
بالعودة إلى مذكرات تلك الأيام أقول إن مسألة البحث في اغتيال بومدين كانت جهدا شخصيا ذاتيا، لا دخل لأي طرف فيه، ولم يوظف لصالح أي جهة ما، لا داخل الجزائر ولا خارجها، وكنت أتابع الأمر بعين الصحافي الباحث عن الحقيقة، الآن، وبعد سنة ونصف من إعدام صدام، يتضح لدينا أن الأمر كان يتعلق بصراعات كبرى مع العدو الصهيوني تقضي على كل قادته، ولسنا هنا بصدد تبرئة أية جهة، ولكن الحق يضيع إذا لم يكن وراءه مطالبون، وباستثناء الرأي العام الجزائري الذي يتفاعل سلبا وإيجابا مع قضاياه، فلا أحد في الجزائر من السياسيين أو صناع القرار يعمل بجد من أجل كشف الحقائق، وكأن الأمر لا يعنيهم، وبذلك طويت عدة ملفات مصيرية تتعلق بحاضر الدولة الجزائرية ومستقبلها.
"عميمور" والقنبلة الإسلامية
مع كل ما ذكر سابقا تظل مسألة اغتيال بومدين ـ إن صحت المعلومات ـ لها أبعادها الدولية أيضا، استنادا إلى ما ذكره الدكتور »محيي الدين عميمور« في كتابه »أيام مع الرئيس هواري بومدين« بقوله:
- ربما كان مما يراود الرئيس بومدين تصورات كثيرة حول إمكانية التعاون الجزائري ـ الباكستاني في مجال كان الحديث حوله يدور همسا، وميدان التعاون النووي، حيث كانت باكستان بقيادة »بوتو« تعطي هذا الميدان اهتماما كبيرا إلى الأوجه التي دفعت البعض إلى القول بأن هذا الاتجاه نحو امتلاك قوة نووية هو الذي أدى إلى التخلص من بوتو خوفا مما يسمى في الصحف الغربية بـ»القنبلة النووية الإسلامية«.
مواجهة بومدين إذاً كانت ضمن الدائرة الإسلامية وليس القومية فقط، ومادام الأمر كذلك فمن الطبيعي أن يخشاه الغرب، وتبعا لذلك يحق لنا اتهام هذا الأخير باغتياله، خصوصا وأن فكرة إنشاء القنبلة الإسلامية سبق أن بدأت توضح بنودها على نحو يجعل التمويل من ليبيا والعلماء من باكستان والتجارب في الجزائر، وكان الغرب كعادته يتابع تطورات العالم الإسلامي فبدأ بالإطاحة بالرئيس »علي بوتو« وأرسل إلى حبل المشنقة، وكانت نهاية بومدين هي ما نعرفه، وأعدم صدام بالطريقة التي شاهدناها واحتلت بلاده.
"سعدي" و"الشروق" و"بوتفليقة"
خلاصة القول أنه ليست هناك أدلة كافية أو وثائق يمكن التعويل عليها لإصدار حكم نهائي فاصل لجهة القول باغتيال بومدين، إنما هي مجرد تأويلات وقراءات مختلفة تستدعيها طبيعة كل مرحلة، وحتى ما جاء على لسان طلاس في حديثه لي في 1996 باعتباره شهادة، أو ما جاء على لسان »حامد الجبوري« في برنامج »شاهد على العصر« عبر قناة »الجزيرة«، أو ما سبق ذلك من كتابات جميعها لا يمكن اعتبارها دليلاً كافيا على اغتيال الزعيم بومدين.
غير أن هناك ما يثير الانتباه في هذا الموضوع هو حياة الرجل بيننا وتحكمه في حياتنا لمدة قاربت الثلاثين سنة من رحيله، وهو أمر يستدعي مزيدا من البحث، حيث لا يظل صانع القرار في الجزائر مكبلا بقيود الماضي على ما فيها من إيجابيات وجمالية وتعلق بالأفق الرحب، وأهم صانع قرار في البلاد مطالب اليوم بالحسم في هذا الموضوع هو الرئيس »عبد العزيز بوتفليقة«، فلقد سبق للتجمع الوطني البومديني الإسلامي بقيادة »محمد سعدي« أن طالب بتدخل الدولة الجزائرية وقطع العلاقات مع العراق زمن الرئيس صدام حسين، حين اتهم من طرف طلاس باغتيال بومدين، لكن الدولة الجزائرية لم تتحرك في حدود ما نعلم.
كما سبق للشروق العربي أن اتخذت موقفا مشرفاً في ذلك الوقت من رد فعل العراق، وقبل ذلك بنشرها للموضوع، والقضايا الكبرى الخاصة بالدولة لا تقودها الأحزاب ولا أجهزة الإعلام، إنما هي عمل ترسيه مؤسسات الدولة التي عمل بومدين من أجل ألا تزول بزوال الرجال والحكومات... فهل من واعٍ لما ينتظرنا في المستقبل من امتداد هذا الملف إلى ملفات أخرى بات قريباً دفعها إلى واجهة الأحداث؟.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى